في ذكرى المجازر الكبرى في تاريخنا، رابعة وأخواتها، رابعة ليست مجزرة واحدة، بل هي مجموعة مجازر بدأت منذ تموز/ يوليو 2013، واستمرت عدة شهور، قتل فيها أعداد لم تحصر بدقة حتى اليوم، في العديد من المدن والمحافظات في طول مصر وعرضها.
في هذه الأيام نتذكر الدماء الطاهرة التي سالت على يد من يحسبون من أبناء شعبنا، إنهم أبناؤنا الذين أعطيناهم السلاح لحمايتنا وحماية بلادنا، فما كان منهم إلا أن سرقوا المال، وقتلوا العيال، وباعوا البلاد، وأذلوا العباد.
مجزرة رابعة (وأخواتها) أكبر الجرائم في تاريخنا الحديث، وربما في تاريخنا كله، وهي حدث مفصلي في مسيرة ثورتنا العظيمة، ثورة يناير ولا ثورة سواها.. ولكن هل تكون رابعة آخر المجازر؟ هل ستظل رابعة وأخواتها أكبر المجازر؟
إن المتأمل في مسار الأحداث في مصر يجد أن رئيس الدولة عميل موتور مأجور (بكل معنى الكلمة)، وهذا رأي بعض مؤسسات الدولة فيه، ولا مانع عنده من ارتكاب أي جريمة في سبيل حماية نفسه، وخدمة من ولوه عرش مصر.
في وقت ما، كنا نظن أن حراك الشارع، وتوحد جزء كبير من المصريين خلف لافتة إسقاط حكم العسكر، كنا نظن أن ذلك يصعب على النظام ارتكاب مجازر جديدة، ولكن يبدو أن تفتت القوى المناهضة للانقلاب، وانعدام البديل الحقيقي لحكم العسكر، قد يغري هذا المأفون المدعو “سيسي” بمزيد من المجازر.
إن تقرير مجلة الإيكونوميست الذي يدعو “سيسي” لعدم الترشح مرة أخرى، ليس سوى بداية لتكرار هذه الدعوة من الدول “الراعية” لهذا المجرم!
ستتكرر دعوات عدم الترشح (وكأن ذلك باختياره) من بقاع شتى، وبأصوات عدة، من دولة المؤامرات، ومن حكماء الدنيا والدين، ومن رجال الأعمال “الوطنيين”، ومن بعض أبطال الرياضة، والفنانين… إلخ، ستصدر الأوامر لكل هؤلاء لكل يطلبوا من الرئيس (الحكيم) (الرصين) أن يتنازل، وأن يكتفي بفترة رئاسية واحدة!
ولكن هيهات.. فقد تكون ردة فعل أي مريض نفسي حيال هذه الدعوات عكسية، أي بالمزيد من الجرائم، مع توريط أكبر لكل من يدعوه إلى اعتزال الحكم مختارا.
إن مصر اليوم لا بد لها من بديل وطني، وهذا البديل لا بد أن يجمع أكبر طيف من المصريين، مهما كانت خلافاتهم، أو تباين آرائهم.
إن تباعد المسافات الفكرية بين المصريين بسبب الاستقطاب السياسي السطحي الحادث اليوم؛ لا يمكن أن يكون مبررا لتجاهل المساحة الكبيرة التي يتفق عليها الجميع، تلك المساحة التي لا مكان فيها لحاكم عسكري يحكم تحت سطوة السلاح، يقتل فيها الأبرياء، وتدوس دباباته على الصناديق، ويعتدي جنوده على الحرمات، وتباع فيها الأرض للعدو التاريخي لأصحاب الأرض.
لقد بلغ حجم جرائم هذا النظام حدا لا مثيل له، فعلى المستوى الاقتصادي، رهن النظام الإرادة الوطنية بالتفريط في ثروات تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، وبتوريط الأمة في صفقات وديون تقدر أيضا بعشرات المليارات، وبخطة خصخصة جديدة تفرط في أصول يملكها سائر المصريين، وبذلك سنصل إلى لحظة يغرق فيها الجميع، فنرى المصريين وقد أصبحوا شعبا كاملا قد فقد جميع مدخراته، بسبب مغامرات عسكرية، وبانهيار قيمة العملة، وبالتفريط في الثروات والأصول المملوكة للشعب كله، وبالديون وفوائدها.
وعلى المستوى السياسي أصبحت مصر دولة في بئر الخطيئة، فبرغم كونها دولة من أقدم الدول وأعرقها تاريخيا، وشعبها من أكرم الشعوب، إلا إن نظامها اليوم من أحقر الأنظمة الموجودة على كوكب الأرض، فلا تكاد تجد دولة تتعامل مع النظام الذي يمثل المصريين (زورا وبهتانا) بنديّة واحترام، بل يتعامل الجميع معه بمنطق التعامل مع رئيس عصابة، يحكم بقوة الأمر الواقع، ولا مجال للتعامل معه إلا بمنطق الاستفادة المطلقة من ضعفه وحقارته، أي بابتزازه بملفاته القذرة، لتقديم تنازلات كبيرة في سائر الملفات.
من المؤسف أن نرى مقاومي الانقلاب يتنازعون بينهم أمرهم، ويتشاكسون في سفاسف الأمور، ويتعاركون من أجل فتات الفتات، ويتركون هذه العصابة جاثمة على صدور الجميع، يزوّرون تاريخ البلد، ويغيرون حدوده التاريخية المصونة، ويحطمون آمال الشباب، ويضيعون مستقبل الأمة، ولا يقومون بأي واجب من واجبات الحفاظ على مصالح الضعفاء والمهمشين.
لا عاصم لمصر اليوم إلا أن تتحد أمام الطغاة، ولا قاصم لمصر اليوم إلا أن يزداد تفتتها وتشرذمها أمام هؤلاء الذين لا هَمّ لهم سوى تثبيت جِرائهم كأمر واقع لا مناص منه.
سيسأل الله كل من لم يقم بواجبه في موقعه من أجل مقاومة هذا الانقلاب الغاشم، وسيسأل الله كل من لم يقم بواجبه في موقعه من أجل توحيد الصف الثوري، وسيسأل الله كل من كان حجر عثرة في سبيل توحيد الجهود لإسقاطه، فلا هو ساعد من أجل إسقاط النظام، ولا هو ترك الآخرين يعملون من أجل ذلك.
سيرتكب هذا النظام ألف مجرزة (إذا ظللنا على فرقتنا)، ولا مانع عنده من أن تكون مجازر رابعة وأخواتها حلقة صغيرة في سلسلة مجازر يراق فيها الدم المصري بسبب تفتت مقاوميه.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين…