مع اقتراب نهاية عهد باراك أوباما وإدارته، تصل المراجعات إلى ذروتها لاستكشاف مدى فداحة الأضرار التي تسببت بها سياسات هذا الرئيس للعرب عمومًا، في الخليج كما في الشرق الأوسط، فضلًا عن المغرب العربي.
والمؤكّد أنه سيغادر البيت الأبيض من دون أصدقاء في المنطقة، أما الذين قد يذكرونه مع شيء من الامتنان فهم من نوع «الحليف» الإسرائيلي الذي أخذ كل المكاسب التي أغدقها عليه، لكنه أفشل سياساته ولم يتردّد في تحدّيه وإهانته، أو من نوع «الغريم» الإيراني الذي استغلّ السياسات الأوبامية ليحقّق معظم إنجازاته الإقليمية.
وفي ظلّ التغوّلين الإيراني والإسرائيلي اللذَين تمتّعا بقبول أميركي واضح المعالم، واحتدام النزاعات الجديدة من دون حل تلك القديمة، أكثرت أميركا-أوباما من الخطوات والإشارات خصوصًا إلى «أصدقائها» العرب بأن اهتمامها يتجه نحو آسيا، لأن المنطقة العربية لم تعد تعنيها إستراتيجيًا.
هذا التحوّل في التقدير الإستراتيجي الأميركي للشرق الاوسط وانعكاساته على أمن الخليج، يشغل حالياً السياسيين والباحثين العرب، وكان محور ورشة نقاشية نظّمها «مركز الامارات للسياسات» في أبوظبي كمساهمة في بحث يعم معظم عواصم المنطقة، ليس فقط لفهم خلفيات التحوّل الأميركي وأسبابه، بل أيضًا لاستشراف سبل التعامل معه والسيناريوات المستقبلية للتحدّيات والفرص التي يطرحها.
وما يجب إدراكه أن التفكير في هذا التحوّل بدأ قبل عهد أوباما، لكن كان على الأخير أن يبلور السياسات اللازمة لتحقيقه، ولذلك يُطرح التساؤل هل أن التوجّه الآسيوي يوجب حُكمًا على أميركا أن تتخلّى عن التزامات تاريخية عميقة طبعت علاقاتها مع منطقة الخليج، أم أن هذا التخلّي يعكس فقط المفهوم الخاص لرئيس أميركي تقترب ولايته من نهايتها؟
يغادر أوباما، إذًا، مطمئنًا في إرثه إلى «أمن إسرائيل» وقدراتها العدوانية، وإلى «عدوانية إيران» ومشاريعها الطائفية، لكنه يترك «أمن الخليج» على قلق، وهو يعلم أن استقرار الخليج بات الحصن الأخير للعرب جميعاً في سعيهم إلى استعادة شيء من الحياة الطبيعة بعد موجة ثورات وانتفاضات لا تزال متفاعلة. ولا تُطرح مسألة أمن الخليج بهذا الإلحاح، لأنها إحدى أكبر المجازفات الاستراتيجية لأوباما فحسب، بل لأن الغموض الذي اعتمده حيالها قد يتبدّى في مستقبل قريب كواحد من أكبر التهوّرات في تعامله مع دول ظلّت رهاناتها طوال العقود الماضية معقودة على العلاقة مع «الصديق» الأميركي الرافض في نسخة أوباما أن يكون «حليفًا» لذرائع واهية، فيما هو يتطلّع إلى علاقة متقدمة مع إيران على رغم عدوانيتها التي ينتقدها أحياناً، لكنه دائم الاستعداد للتعايش معها، وعلى رغم رعايتها المؤكدة للإرهاب التي يستنكرها أحياناً، لكنه يتجاهلها معظم الأحيان مراعاةً للمصلحة.
تشهد مجريات العلاقة مع إدارة أوباما طوال ثمانية أعوام أنه انطلق برئاسته مسكونًا بوهم استعادة إيران أميركياً، كما لو أنه نذر رئاسته لتجديد أمجاد الارتباط بإيران الشاه، لكن مع الملالي. نسيت واشنطن – أوباما أن العرب، ولا سيما الخليجيين، اتخذوا موقفًا متحفّظًا وحذرًا إزاء إيران – الخميني، أولاً بـسبــب ما يمكن أن تعنيه «الجمهوريـة الإسلامية» واعتمادها «تصدير الثورة» كأحد أهدافها المعلنة، لكن خصوصاً بسبب التكيّف مع موقف الولايات المتحدة الذي لم يكن متحمسًا أو مطمنئاً لمسار الثورة. كما أن تأييد الخليجيين للعراق في حربه على إيران كان مواكباً لتوجّهات السياسة الأميركية التي تحوّلت عداءً وتصلّبًا مع أزمة رهائن السفارة في طهران وبعدها. هذا في البداية، أما الآن فيشعر الخليجيّون بأن الأميركيين خذلوهم في نهاية المطاف، وهم في خضم مواجهة مع إيران التي تجهر بأنهم تبيّت لهم ثأرًا.
وكان العرب، لا سيما الخليجيين، أيّدوا نهج التفاوض على الملف النووي الإيراني، لأن الأزمة وتّرت المنطقة وتأرجحت بها بين احتمالات مقتربة أو مبتعدة لحرب لا يريدونها. لكنهم تبيّنوا أن التفاوض، كما خاضه أوباما، لم يتردّد في تهميشهم. ففي مقابل حرصه على إرضاء إسرائيل والاهتمام بهواجسها الأمنية على رغم منحاها الابتزازي، لم يأخذ أمن العرب ومصالحهم في الاعتبار، وعندما دعاهم إلى قمة «كمب ديفيد» كان يبغي خصوصاً إقناعهم بقبول اتفاق نووي لم يكونوا يرفضونه، وإنما يرفضون كل ما ارتكبته إيران في بلدانهم وبلدان عربية أخرى على هامش التفاوض وفي سياق مساوماته. وخلال تلك القمة تأكّد الخليجيون مما كانوا أدركوه قبلها، وهو أن أوباما لا يعترف بوجود «الخطر الإيراني» الذي يشكون من تدخّلاته.
أكثر من ذلك، بدت الركائز التقليدية للسياسة الأميركية إزاء المنطقة كأنها فقدت ثباتها: فالاعتماد على النفط الخليجي تراجع، وأمن إسرائيل بات يتطلّب ضمانات إيرانية وليس عربية، أما ضمان استقرار الأنظمة «الصديقة» فتراجع أيضاً لمصلحة «مكافحة الإرهاب» الذي تميل واشنطن إلى إلقاء مسؤولية استشرائه على هذه الأنظمة… ومن هذا المنطلق قلب أوباما التعاون أو الشراكة الدفاعيين من بحث في مدى الالتزام الأميركي وكيفية ترجمته عسكريًا إلى نقاش في لوازم التسلح ومنظوماته، من دون التزام سياسي واضح. وهذا يذكّر إلى حدٍّ كبير بالمكاييل التي تعاملت بها أميركا في تسليح العرب مع ضمان التفوّق الإسرائيلي الدائم، فهي هنا تحرص على عدم استفزاز إيران وتكتفي بإقامة توازن هشّ بينها وبين عرب الخليج. وبالتالي، فإن إدارة أوباما تتطلّع إلى تجديد معادلة الاحتواء الاستراتيجي للعرب بالاعتماد على إسرائيل وإيران وتركيا، على رغم أن ثمّة تباينات واضحة بينها وبين الدول الثلاث بالنسبة إلى التعاطي مع الأزمات المشتعلة في المنطقة العربية.
لم يكن مستغربًا أن تختلف المقاربات الأميركية-الخليجية لهذه الأزمات، كنتيجة واستطراد لرفض أوباما الارتقاء بالتعاون الدفاعي إلى مصاف التحالف مع دول الخليج التي استثمرت منذ نشوئها في علاقتها مع الولايات المتحدة وحصرت شؤون أمنها بضمانات وفّرتها الدولة العظمى، ولا تزال تؤكّدها، إلا أن هوس أوباما بإيران أضعف مصداقية تعهّدات إدارته، فالفارق كبير بين مغزى الالتزامات في سياق علاقات جارية وفي أوقات السلم وبينها في أوضاع متأزمة يشكو فيها «الأصدقاء من تدخّلات دولة مجاورة وعدوانيتها. ولدى التدقيق في السياسات التي اعتمدها أوباما و»طفّش» بها ثلاثة وزراء دفاع اشتكوا من غموضها وزئبقيتها، يتبيّن أن واشنطن والرياض مع معظم عواصم الخليج لم تكن على الموجة نفسها بالنسبة إلى أزمات مصر وسوريا واليمن والعراق وليبيا، فضلاً عن لبنان والبحرين، إذ إن التوجّهات الأميركية كانت في عمقها وفي أبعادها العملية قريبة إلى مواقف إيران كما في العراق وسوريا مثلاً أو مسايرة لمواقف طهران كما في اليمن والبحرين، أو متعايشة معها في لبنان. والمفارقة أن المواقف الإعلامية الأميركية لم تعبّر عن النيات والسياسات الحقيقية، خصوصًا في الأزمة السورية التي تدار بتفاهمات مع روسيا، وهذه تأخذ في اعتبارها رأي ايران.
وُصفت إدارة أوباما بأنها مغادرة المنطقة العربية أو مبتعدة منها، لكن أزمات هذه المنطقة كانت أكثر ما شغل ديبلوماسيتها وما جعلها تراكم الإخفاقات طوال الأعوام الثمانية الماضية، وفيما هي تعتبر الاتفاق النووي عنوان نجاحها الوحيد فإنه لا يمكن أن يشكّل نجاحاّ إلا بفصله عن سياسات التخريب التي اتّبعتها إيران واستولدت بها قضايا عدة إلى جانب القضية الفلسطينية بل أكثر منها إيذاءً وتعقيدًا. هذه القضايا هي إرث أوباما الفعلي للمنطقة وشعوبها، كما للإدارة الأميركية المقبلة التي لا بدّ أن تنشغل برفع الخراب الذي يخلفه أوباما، ولا أحد يستطيع التكهّن منذ الآن بما ستكون عليه خياراتها. والمشكلة ليست في أميركا المغادرة بل هي في التقاعس عن حل أزمات ساهمت في تعقيدها، وعن إرساء سياسات تمكّن الدول المعنية من إيجاد الحلول المناسبة.