أصدر مجلس التأديب الأعلى للقضاة، حكمًا نهائيًا بعزل 15 قاضيًا في حركة “قضاة من أجل مصر”؛ بتهمة الاشتغال بالسياسة، فيما اعتبره القضاة مذبحة جديدة للقضاء المصري تضاف لسجلات المذابح التي حدثت منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر مرورًا بالمخلوع مبارك وحتى عهد السيسي.
ويعتبر الحكم الذي أصدره مجلس التأديب الأعلى للقضاة، حكمًا نهائيًا لا يقبل الطعن عليه نهائيًا، فيما ينتظر 55 قاضيًا آخرين بقضية “بيان رابعة”، الحكم عليهم في 28 مارس الجاري.
والقضاة المعزولون هم “محمد عبدالحميد، القاضي بمحكمة استئناف المنصورة، ومحمد الأحمدي، الرئيس بمحكمة الأقصر الابتدائية، وأحمد الخطيب، القاضي بمحكمة استئناف القاهرة، وحسن علي النجار، الرئيس بمحكمة استئناف القاهرة، ومحمد عوض عيسى، الرئيس بمحكمة استئناف القاهرة، وبهاء حلمي الجندي، الرئيس بمحكمة استئناف طنطا، والمستشار أيمن الورداني، الرئيس بمحكمة استئناف القاهرة، ونور الدين يوسف، الرئيس بمحكمة استئناف القاهرة، وهشام حمدي اللبان، الرئيس بمحكمة شمال القاهرة الابتدائية، مسعود علي، القاضي بمحكمة استئناف الإسكندرية، وحاتم مصطفى، القاضي بمحكمة استئناف القاهرة، وأسامة عبدالرءوف، القاضي بمحكمة استئناف الإسكندرية، ومحمد وائل، الرئيس بمحكمة استئناف المنصورة، ومحمد ناجي دربالة، نائب رئيس محكمة النقض”.
يقول المستشار ناجي دربالة، نائب رئيس محكمة النقض، وأحد القضاة المعزولين: إن “الإجراءات التي اتخذت ضد القضاة اتسمت بالتعسف والظلم والتعنت أفضت إلى محاكمتهم تأديبيًا وانتهت تلك المحاكمة بمذبحة قضائية جديدة”.
وأضاف -في تصريح خاص لـ”رصد”- أن هذه المحاكمة ذات صبغة سياسية استهدفت إرهاب سائر القضاة والحيلولة بينهم وبين التعبير عن رأيهم وأُهدرت فيها كل الضمانات القانونية للمحاكمات العادلة وصودرت فيها كل حقوق الدفاع التي كفلها الدستور والقانون، فلم يُمكّن أي من هؤلاء القضاة من مجرد إبداء دفع أو دفاع وصدر الحكم عليهم دون أن ينطق أيهم ببنت شفة، مؤكدًا أنها تضاف إلى سجلات مذابح القضاة بعهد عبدالناصر والمخلوع مبارك.
ويعلق المستشار هشام البسطويسي، نائب رئيس محكمة النقض: “ما يحدث هو سابقة في تاريخ نادي القضاة منذ تأسيسه عام 1939؛ فالإجراءات التي حدثت في الستينيات ضد القضاة كانت أقلَّ حدةً مما تحاول أن تفعلَه السلطةُ الآن؛ حيث لم تجرؤ على التصدي للسلطة القضائية مباشرة، وإنما استعانت بالسلطة التشريعية من خلال سن قرارات لها قوة القانون، بموجبها تمَّ فصل بعض رجال القضاء، أما ما يحدث الآن فهو تعدٍ مباشر من السلطة التنفيذية ممثلة في وزيرِ العدل، على السلطة القضائية ممثلة في هؤلاء القضاة”.
وأضاف “الغرض من هذه الإجراءات التعسفية هو البطش بنا وإرهابنا، وإسكاتنا عن المطالبة بفتح التحقيقات في جرائم تزوير الانتخابات، ومحاسبة مرتكبيها أيًا كانت صفتهم، ومحاسبة من تعدى على رجال القضاء، لكن هذه الإجراءات التعسفية لن تثنينا عن مسيرتنا، وإنما زادتنا صلابة وتمسكًا بمواقفنا، كما زادت من التفاف القضاة حولنا، في ظل تأييد غير مسبوق من منظمات المجتمع المدني والقوى الوطنية المختلفة”.
مذبحة عبدالناصر
في 31 أغسطس 1969، في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، تم عزل رئيس محكمة النقض، وأكثر من نصف مستشاريها، وناهز عدد القضاة المعزولين نحو مائتي قاضٍ من القضاة المتمتعين بحصانة عدم القابلية للعزل بغير الطريق التأديبي وفقًا للقانون، وأطلق على تلك الأزمة “مذبحة القضاة”.
وكان وراء هذا الأمر سبب غير مباشر، وهو هزيمة يونيو 1967 وما تبعها من آثار نفسية وعصبية على القيادة السياسية، وعلى من كانوا على صلة بها من أعضاء التنظيم السري الطليعي في الاتحاد الاشتراكي، وكان بعض رجال القضاء ومجلس الدولة منخرطين في هذا التنظيم كما تبين فيما بعد، وكان بعضهم يكتب التقارير السرية عن زملائه إلى القيادة السياسية يوميًا بما كان يدور من أحاديث في نادي القضاة، ومجالس القضاة الخاصة؛ حيث كانت هذه مهمة أعضاء ذلك التنظيم، وبهذا الأسلوب بدءوا في إثارة غضب الرئيس جمال عبدالناصر بصورة متصاعدة ضد القضاة.
وفي الوقت ذاته، كان الرئيس عبدالناصر يلح على المستشار عصام حسونة، وزير العدل في حينها، ليشكل تنظيمًا سريًا من القضاة، وكان الوزير غير مقتنع بهذه الطريقة لتعارضها مع أخلاق القضاة، فكلف عبدالناصر وزير الداخلية شعراوي جمعة، بتشكيل جماعة قيادية لهذا التنظيم، فشكلها من عدد من رجال القضاء ومجلس الدولة، وإدارة قضايا الحكومة، والنيابة الإدارية، وأسماهم هيئات قضائية، وهي واقعة حدثت للمرة الأولى في تاريخ القضاء المصري منذ نشأته.
وبعد تولي المستشار محمد أبو نصير وزيرًا للعدل، قام بتشكيل تنظيم سري من القضاة، وكانت نواة هذا التنظيم وجود قضاة من أشقاء بعض الوزراء آنذاك، وأخذت هذه الجماعة تعقد جلسات دورية برئاسة الوزير محمد أبو نصير الذي بذل جهدًا كبيرًا في سبيل تكوين تنظيم طليعي داخل القضاء، واستعان بتكوينه ببعض الذين خضعوا لنفوذه ونفوذ عملائه، وهنا تزايدت التقارير اليومية على مكتب الرئيس عبدالناصر.
وناقش الوزير مع اللجنة العليا هذا التنظيم، وطالبوا حينها في توصياتهم بإعادة تشكيل هيئات القضاء، ودمجها في النيابات الإدارية وإدارة قضايا الحكومة، وإجراء التنقلات بين القضاة إلى هاتين الجهتين، وإلى غير ذلك من المقترحات الهدامة والمبالغات الجسيمة في حق الشرفاء من رجال القضاء.
مذبحة المخلوع
في عهد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، تعرض قضاة للمحاصرة والضرب والسب، ففي فجر يوم 24 إبريل عام 2006، وفي واقعة هي الأولى من نوعها في تاريخ القضاء المصري، شهد شارع عبدالخالق ثروت صورة جديدة من صور الاعتداء على القضاء المصري؛ حيث قام ضابطان بمباحث أمن الدولة، و4 من أمناء الشرطة، بالاعتداء بالضرب والسب بالأب والأم على المستشار محمود عبداللطيف حمزة، رئيس محكمة شمال القاهرة الابتدائية وقتها، وشقيقه، أمام نادي القضاة، عندما كان المستشار يحاول تصوير الاعتداء الأمني على أعضاء حركة “كفاية”، والنشطاء المعتصمين أمام النادي، ومحاولات رجال الأمن إزالة الكتابات المكتوبة على الأرض تضامنًا مع القضاة.
وجاء هذا الاعتداء ليرفع حدة المواجهة بين القضاة والحكومة، ويوقف محاولات بعض كبار المسؤولين من أعضاء النادي، أمثال المستشار عدلي حسين، محافظ القليوبية حينها، للتفاوض لإنهاء الأزمة، التي اشتعلت عقب قرار المستشار أبو الليل، وزير العدل، بإحالة المستشارين البسطويسي ومكي، نائبي رئيس محكمة النقض، لمجلس الصلاحية؛ حيث ألغى قرارًا كان مقررًا للتفاوض حول إنهاء الأزمة.
وقال المستشار محمود عبداللطيف وقتها، وهو يرقد في المستشفى بعد الاعتداء عليه: “كيف أصدر حكمًا وأجلس على منصة القضاء بعد أن تم الاعتداء علي، وإهانتي بأبشع الألفاظ الخارجة، التي لم أسمعها من قبل”؟.
وأضاف “عندما قام الضابطان بالاعتداء علي بالضرب والسب، صرخت: “حاسب.. أنا مستشار.. رئيس محكمة شمال القاهرة” فجاء الرد صارمًا: “اخرس يا كلب”.. ثم فوجئت بـ4 أمناء شرطة يمسكون بشقيقي أحمد ويعتدون عليه هو الآخر، وقام الضابطان وأمناء الشرطة بإلقاء الكارنيهات والبطاقة الخاصة بي على الأرض، وسحبوا الطبنجة الخاصة بي، وتليفوني المحمول، واستمروا في الاعتداء علي دون رحمة والنظر لتوسلاتي، بعد أن سمعت شتائم لم أسمعها في حياتي، كما سمعت صرخات شقيقي التي لم تتوقف حتى جمعت بيننا سيارة الترحيلات.
وتابع: “داخل السيارة التي شاهدتها كثيرًا، أمسكت بشقيقي أحمد، وكنت أنزف بشدة، ثم أغلق الضابطان وأمناء الشرطة باب السيارة، ولم أتوقف عن النداء: أنا رئيس محكمة، ولم يسأل أحد في أو في شقيقي، وكان معنا 4 آخرون في السيارة نفسها؛ حيث اصطحبونا إلى منطقة عرفت فيما بعد أنها عابدين، وأخذوا الأربعة وبقيت أنا وشقيقي.. أمسكت بضابط دخل علي وقلت له أرجوك عايز دكتور أو سيارة إسعاف، بعدها دخل 4 ضباط مختلفين، وكل واحد يقول: اسمك إيه دون الاهتمام بالنزيف.. آخرهم قلت له أنا مريض أجريت عملية قلب مفتوح، وأشرت إلى الجراحة والنزيف دون جدوى”.