على مدار عقود كان نظام الحكم في مصر ونظم أخرى في المنطقة تعتمد على تصدير صيغة توفيقية مصطنعة عبر تزاوج صوري بين ديمقراطية شكلية-تعبر عنها مؤسسات كالبرلمان-واستبداد قح أصيل يتمثل في سلطة تمارس كل أنواع الطغيان والقمع بالمعنى الحرفي للكلمة.
نظام الحكم العسكري في مصر منذ الثالث والعشرين من يوليو 1952 صدَرَ في مراحل مختلفة صورة ترتكز علي شكل مؤسسات عصرية ( كالبرلمان) تتجمل بشكليات الديمقراطية و ببعض حقوق الإنسان وترتكز في ذات الوقت علي جذور استبدادية عميقة.
هذه الصيغة التوفيقية للديمقراطية الشكلية والاستبداد لم تكن نتاجا خالصا لإبداعات هذا النظام ولكنها الصيغة التي أرتأها المحتل الخارجي لوكيله المحلي؛ فالمحتل و إن كان قد خرج بعدته وعتاده إلا أنه خلف وكيلًا محليًا ونظامًا مستبدًا تجاوز بمراحل ممارسات المحتل الاستبدادية وفاقه فيها بامتياز فقام بتدمير ممنهج لبنية المجتمع وأضعافٍ للقوي الفاعلة فيه و مارس اغتيالا لكافة القيم العليا حتى يصبح المجتمع خاضعًا بالكامل لسلطته المستبدة.
منذ اللحظة الأولي لفتح باب الترشيح لبرلمان 2016 كان هناك تعمد لاغتيال ما بقي من قيمة للبرلمان في نفوس المصريين- فمن مشهد الزحام والعراك و سقوط البنطلون عن أحد المتقدمين للترشح ، ومرورا بالهندسة المخابراتية الأمنية لعملية اختيار النواب وانتهاءً بتدشين هذا البرلمان الثامن والأربعين في تاريخ الحياة البرلمانية المصرية و ما تم نقله على الهواء مباشرة لمهازل أراقت ماء وجه الحياة البرلمانية- فقد وجه النظام العسكري ضربة قاضية لقيمة البرلمان وهيبته مسخت كل صورة ذهنية إيجابية للمجالس التشريعية التي عرفتها مصر على مدار تاريخها.
لم يغب أبدا عن الممسك بتلابيب المشهد المصري ورعاته الرسميين مشهد ما بعد الخامس والعشرين من يناير 2011 وتلك الطوابير الممتدة في كافة الاستحقاقات المختلفة ومنها الانتخابات البرلمانية لأول مجلس حقيقي منتخب بإرادة حرة للمصريين.
منذ أكثر من ستة عقود كانت مصر تسير بلا هوادة و بانتظام نحو تعميق غياب القيم العليا واغتيالها مما أدى إلى تسفيه الإيجابية وتعظيم السلبية واستحسان القهر والاستسلام، و لقد كان مشهد المشاركة الشعبية غير المسبوقة و في انتخابات برلمان 2012 بمثابة انتفاضة على تلك السلبية واستعادة لمنظومة القيم العليا التي غابت ردحًا طويلا و اجتهد النظام العسكري في اغتيالها قهرًا وقسرًا.
لقد مثلت انتفاضة الشعب المصري بعد الخامس والعشرين من يناير-باختيار مؤسساته واستعادته القيم المغيبة والتحول من السلبية إلى الإيجابية- صدمة وعبرة للنظام المحلي ورعاته الدوليين.
كذلك كان من توابع زلزال هذه الانتفاضة واستعادة القيم العليا تصدر الإسلاميين للمشهد في البرلمان حيث أثبتت التجربة أنهم من يعبرون عن آمال الشعب وينتمون إليه وينطلقون من مجموعة قيم ثابتة تعلي من قيمة الحرية والشورى والأبداع وترسخ الانتماء وتكرس الاعتماد على الذات وتسعى لفك قيود الهيمنة والتبعية، ولذلك كانت حرب النظام المستبد والقوي الخارجية على من يحملون الفكرة الإسلامية بلا هوادة.
لم يكن مشهد الانقلاب في الثالث من يوليو 2013 وحتى تفعيل البرلمان الحالي والإمعان في تحقيره منذ انطلاقته سوى الضربة التي أراد الوكيل المحلي للمحتل الخارجي أن يوجهها للمصريين عقابًا لهم على ايجابيتهم وانتفاضتهم لاستعادة قيمة البرلمان والقيم العليا التي غيبها عنهم ؛ فكانت الهندسة المخابراتية والأمنية لكامل البرلمان وكان الاختيار لشخصيات بلغت حدًا من السفه و التجاوز وتحمل من النقائص والفساد ما يعلمه القاصي والداني.
مشهدان على الساحة المصرية من بين المشاهد العديدة يمكن أن نختزل فيهما استراتيجية النظام العسكري في سحق كل ما هو مدني واغتيال القيم العليا وتغيبها وتحقير البرلمان وتسفيهه.
المشهد الأول ملف الفساد والهجوم على المستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، والمشهد الثاني البرلمان الهزلي وتمرير أكثر من ثلاثمائة وثلاثين قانونًا-تمس سائر جوانب الحياة في مصر و يحمل الكثير منها عوارًا دستوريا ويخاصم الباقي منها آمال المصريين وطموحاتهم-خلال أيام معدودات في سابقة لا أظن لها مثيلا في بلد آخر.
يدرك النظام المحلي المستبد وكيل المحتل الأجنبي أن وجود القيم العليا وتصدرها يوقظ فكرة الثورة على الاستبداد والطغيان ومن ثم فخلخلة هذه القيم واغتيالها كفيل بوأد فكرة الثورة.
لذلك تعلم نظم الحكم المستبدة يقينًا أن بقاءها مرهون بقتل الانتماء ودفع المجتمع إلى التعايش مع القهر وقبول الاستبداد والتفاعل معه حتى يصل الأمر إلى ذروته بوجود من يستنكر محاولات دفع هذا القهر والاستبداد والخروج عليه ، والواقع المصري مع الأسف يحمل من شواهد ذلك الكثير.
في مصر عمق النظام من التعصب الأعمى وشجع مفاهيم الفهلوية والتزوير والتضليل والفساد في كل الميادين الحياتية والاستهتار بالأخلاق والحريات والقوانين الخادمة للإنسان وتلاعب بمؤسسات المجتمع وهيئاته ، وجعل مصر وشعبها في انحدار تاريخي غير مسبوق، لذلك أصبح هذا النظام على حد تعبير الكواكبي لا تربطه بالأمة رابطة معينة معلومة أو مصونة بقانون ولاعبرة فيه بيمين أو عهد أو تقوى أو حق وشرف أو عدالة أو مقتضيات المصلحة العامة .
وهنا لا أجد أفضل من أسوق كلمات للراحل العبقري دكتور جمال حمدان رحمه الله حيث يقول (مطلوب إذن حدث عظيم وأعظم في الوجود المصري، لا يرج مصر وحدها، ويخرجها من مأزقها التاريخي الوجودي أو من دوامة الصغار والهوان والأزمات التراكمية المعيبة التي فرضت عليها، ولكن أيضاً يرج الدنيا كلها من حولها، لتفرض مصر عليها احترامها وتقديرها من جديد، والاعتراف بها شعباً أبياً كريماً عزيزاً إلى الأبد).