لم تكن حرب الأَنْفاق ابتكارًا جديدًا في المعارك، فهي استِراتيجِيَّة قديمة، ومن أشهر الاستراتيجيات الحربية التي عرفها التاريخ، استخدمتها قوى المُقاوَمَة في كثير من المناطق بعد استعصاء التقدم على الجبهات، نتيجة للقوة النارية الكبيرة التي يستخدمها الخصم في كبح أي محاولة تقدم فوق الأرض، أو لتحقيق ضربات قوية ومباغتة، فقد سجلت نجاحًا مهمًا في الثورة الفيتنامية، و العراق وأفغانستان والمُقاوَمَة اللبنانية.
مثلت أَنْفاق المُقاوَمَة في غَزَّة، أداءً استثنائيًا للمقاومة، فعجز الجانب الإِسْرائيليّ بكل منظومته العسكرية والاستخباراتية والتكنولوجية الوصول لشبكة أَنْفاق المُقاوَمَة وتدميرها ، كانت هذه من أهم الاستراتيجيات التي أسهمت في هزيمة قوات النخبة الإِسْرائيليّة على جبهات القتال المتعددة من قطاع غَزَّة، ومكنت مقاتلي المُقاوَمَة من ضربهم في مقتل، ويقول الخبير الجيولوجي “يوسي لنغوستكي”، عقيد في الاحتياط وعنصر سابق في الاستخبارات العسكرية، “الأَنْفاق تشكل تهديدًا استراتيجيًا على “إسرائيل”، وينبغي الأخذ بالحسبان أسوأ السيناريوهات التي تتمثل في قيام عناصر من حماس بالتسلل لإحدى البلدات بالقرب من الحدود، والقيام بخطف العشرات من سكان هذه البلدة وأخذهم لغَزَّة .
قدمت الأَنْفاقُ نموذجًا استثنائيًا في بنائها وطرق الحفاظ على سرية وجودها، وتأمينها وحمايتها، وفي كيفية تنظيم الحياة بداخلها بما يتضمنه ذلك من طرق للتهوية والإعاشة والاتصال، وخاضت المُقاوَمَة خلال السنوات سابقة أكثر من حرب استطاعت القوات الإِسْرائيليّة فيها قتل عدد كبير من المقاومين نتيجة عدم استطاعتهم العمل بتخفٍ كامل في عمليات إطلاق الصواريخ وغيرها من الأعمال العسكرية الأخرى، وتقدمت القوات البرية الإِسْرائيليّة بشكل كبير داخل المناطق الحدودية لقطاع غَزَّة دون رادع، هذا الأمر اختلف في حرب 2014م، فقد استطاعت المُقاوَمَة حفر شبكة من الأَنْفاق مجهزة بمختلف الإمكانيات اللوجستية، وتمديد شبكة كهرباء وتهوية وغرف، وهذه الأَنْفاقُ متنوعةٌ، منها الهجومي والدفاعي، ومنها للإمداد والاتصال، وأخرى للحماية .
فالأَنْفاق الهجومية استخدمت في التسلل خلف خطوط العدو، وتنفيذ عمليات هجوم على مواقع إِسْرائيليّة مثل عملية (نحال عوز وإيرز وأبو مطيبق)، وغيرها من العمليات التي كانت من أكبر وأجرأ العمليات في تاريخ المُقاوَمَة الفلسطينية ، واستخدمت الأَنْفاق لإطلاق الصواريخ وقذائف الهاون، حيث تمّ إعدادها كمنصات للإطلاق، ونتيجة لعدم قدرة المُقاوَمَة على التحرك وإطلاق الصواريخ من فوق الأرض، وتمكن طائرات العدو من رصد كل ما هو متحرك على الأرض، وهذا كان له الأثر الكبير في استمرارية إطلاق الصواريخ حتى آخر يوم في الحرب.
أما الأَنْفاق الدفاعية فقد تم إعدادها لضرب القوات المتقدمة داخل قطاع غَزَّة، ونتج عنه تكبيد قوات العدو البرية المتقدمة الكثير من الخسائر، من خلال خروج المقاتلين من مسافة صفر لقوات العدو، مما يؤدي لإرباكهم وقتل العديد منهم، وهذا النوع من الأَنْفاقِ تمَّ استخدامه في معظم المناطق التي تقدمت فيها قوات العدو، في مناطق الشجاعية، والتفاح، وبيت حانون، وخزاعة ومنطقة رفح، حيث وقعت خسائر فادحة في الجيش الإِسْرائيليّ.
الأَنْفاق تعني الذخر الاستراتيجي للمقاومة الفلسطينية، التي بدأت تعتمد بصورة شبه كاملة على الأَنْفاق في التخفي والمباغتة والإنزال والهجوم والدفاع والتخزين، حتى أصبحت الأَنْفاق روح العمل للمقاومة، وتطوير الأداء في هذا العمل لا يقل أهمية عن تنفيذ عملية استشهادية، أو إطلاق صواريخ بعيدة المدى، أو الانتقال من مكان لآخر، فكل هذه الأمور رغم أهميتها تعتمد بشكل أساس على الأَنْفاق .
تتمثّل إحدى أهم موَاطِن التأثير التي تركتها استِراتيجِيَّة الأَنْفاق بالمسّ بالشعور بالأمن الجماعي والشخصي للمستوطنين الإِسْرائيليّن الذين يقطنون محيط القطاع، فرغم أنهم لم يغادروا مستوطناتهم عندما كانت تتعرّض للقصف بالصواريخ والقذائف، إلا أنه بعدما تبيّن حجم وخطورة الأَنْفاق الحربية، تحوّلت المستوطنات لمناطق أشباح خالية من البشر.
وفي تقرير للقناة الثانية الإِسْرائيليّة قال مستوطن: “بشكل دائم أُهيّء نفسي لخروج المقاتلين الفلسطينين من باطن الأرض، بِتنا نخاف من الكلاب حينما تمر من بين الأعشاب والأشجار لأننا نعرف أن خروج المقاتلين علينا أمر ممكن”. ويضيف آخر: “في السابق كنت أثق بالجيش بشكل كامل، لكن اليوم الخوف بات أكبر لدي، لأننا متأكدين أن ما يقوله الجيش عن الأَنْفاق غير صحيح، لأنها موجودة ومن الممكن أن نتفاجأ بها في أي لحظة”.
يدرك العدو الصهيوني أن المُقاوَمَة لا يمكن أن تتخلى عن الأَنْفاق في المستقبل، وأنها ستواصل تحسين قدراتها، لأنها استِراتيجِيَّة لا يمكن التخلي عنها، لذا وجب الإعداد والتجهيز للأَنْفاق .
وقد تكون الحاجة للأَنْفاق في قطاع غَزَّة أكثر من أي منطقة أخرى، لأن غَزَّة محدودة المساحة ومكشوفة، وأبعادها محدودة مطوقة محاصرة، لذلك فهي مطلوبة، وفي أي حرب قادمة ستكون ضرورية لأن لها مفعول نفسي ومعنوي على العدو ومستوطنيه، وكل الإحصائيات تشير بعد حرب غَزَّة 2014م أن حركة الاستيطان في جنوب فلسطين المحتلة في تراجع، والمستوطنين الجدد يبتعدون عن السكن في جنوب فلسطين تحديداَ على حدود قطاع غَزَّة أو في غلاف غَزَّة .
وقد أكدت المُقاوَمَة أنها تمكنت من صيانة كل الأَنْفاق، وأضافت لها أَنْفاقا جديدة، وتجاوزت العيوب والأخطاء التي اكتشفتها أثناء الحرب، سواء من حيث طبيعة الأَنْفاق والمواد المصنعة التي تحمي أطرافها، وتحديد ما تريد أن تستخدمه إسمنت أو أخشاب، وحسّنت من أدائها، وقد تدار المعركة في المرحلة القادمة من تحت الأرض، ربما غرف العمليات والمبيت وغيرها.
ويرى رئيس وحدة البحث السابق في شعبة الاستخبارات العسكريّة الإِسْرائيليّة، الجنرال “غابي سيبوني”، أنه منذ انتهاء الحرب في صيف 2014 تعكف المُقاوَمَة على إعادة إصلاح شبكة الأَنْفاق الهجومية من غَزَّة إلى “إسرائيل”، لأنها فهمت أن عدد الأَنْفاق التي حفرتها، ومدى استخدامها شكلت مفاجأة “لإسرائيل”، وبناءً على ذلك أصبحت الأَنْفاق الهجومية عنصرًا مركزيًا في العقيدة القتالية للمقاومة .
أما “ألون بن دفيد” محلل الشؤون العسكرية للقناة العاشرة الإِسْرائيليّة فيرى أن تهديدات “إسرائيل” عقب حرب غَزَّة 2014م فارغة، لأن المُقاوَمَة استكملت خلال أشهر بعد الحرب حفر عدد ليس قليل من الأَنْفاق ، هذا يعني أن الأَنْفاق في حال أحسنت المُقاوَمَة السيطرة عليها، وتوظيفها جيدًا، ستكون لها الكلمة القوية في أي معركة مقبلة، وتفرض من خلالها قوة عسكرية كبيرة قادرة على تغيير موازين القوى والصراع مع الجيش “الإِسْرائيليّ” الذي فشل في تدميرها كليًا، أو حتى وقف تطورها تحت الأرض .
لذلك في ظل الظروف القائمة والدلائل والشواهد على الأرض فإن لاستِراتيجِيَّة الأَنْفاق دورًا محوريًا ومهمًا في أي مواجهة قادمة مع الاحْتِلال الإِسْرائيليّ، فالأَنْفاق تعد للمقاومةِ شريان حياة وضرورة استِراتيجِيَّة وعملياتية ولوجستية إذا أرادت أن تبقى فاعلة ومؤثرة، وعلى ما يبدو فإن الحرب القادمة سيكون عنوانها الأبرز هو استِراتيجِيَّة الأَنْفاق .