الحركات الدينية التاريخية ولدت في باحة المذبح، تندفع في السباحة ضد التيار العام، وحين تدخل حلبة السياسة فإنها تدخل في أعتى أنواع الصراع مع محيطها، حيث تضطر إلى الاصطدام، بعضها يموت وبعضها يعاود النهوض، وبعضها ينتصر.
تأسست جماعة الإخوان على نظرية سياسية، قعّدها حسن البنا وفق التدرج الإصلاحي، الفرد المسلم والأسرة المسلمة ثم المجتمع المسلم ثم الحكومة المسلمة فالخلافة فالأستاذية. ومن ثم كان متوقعا، بعد حين من تأسيسها، أن تنتقل من الأخلاقي إلى الاجتماعي فالسياسي، بعدها انتقلت قاعدة الجماعة من الشرائح الدنيا، إلى الشرائح الأعلى، وعندما باتت قوتها الأساسية تنبع من الطبقة الوسطى اتجهت للسياسة.
هذا التدرج التغييري جعلها حركة إصلاحية بالإساس، وليست حركة ثورية أو جهادية، تتبنى التغيير من أسفل لا من أعلى، فالتنظير للثورية الإسلامية بدأ مع جماعة شباب محمد التي انشقت عن الإخوان، وفي الأدبيات الجهادية في السبعينيات تبدأ بالحكومة فالمجتمع فالأسرة فالفرد، بعد أن يتم القفز على الجهاز الحكومي بالسطو المسلح بحسب ما كان يخطط عبود الزمر ومن قبله محمد عبد السلام فرج، أو في التغيير الإكراهي كما فعلت الثورة الإيرانية ومنهج الخميني القائم على تثوير المجتمع أفقياً مصحوباً بكاريزما شخصية دينية فقهية ومعها رموز الحوزة، وهذا كان غائبا تماما عن حركة وأفكار الإخوان.
لذا فالثورة الدينية أو الجهادية هي حركة مضادة للإصلاحية الإخوانية، وحتى تتحول حركة إصلاحية إلى حركة ثورية يلزمها تعديل جوهري في صلب نظريتها السياسية، ولأن الإسلاميين هم تيارات دينية تقوية، فلزاماً عليهم حين يعدلون من آرائهم أن يتحركوا من أرضية الدين، فلكي يثوروا يلزم تعديل شرعي في نظرتهم للمجتمع والدولة وأن نتنقل من التدرج للإزاحة، ومن الأسلمة للتكفير، ومن الإصلاحية إلى الانقلابية، ومن النضال النيابي إلى الحاكمية، ومن حسن البنا إلى سيد قطب ومن قطب إلى.. إلخ، يلزم حتى يثور الإخوان أن يكونوا إما تيارا خلاصيا مهدويا على غرار ما فعل شكري إسماعيل في جماعة المسلمين، أو أن يكونوا تيارا جهاديا ثوريا على غرار ما فعل عبود الزمر ومحمد عبد السلام فرج، يعني حتى يثور الإخوان يلزم ألا يكونوا إخوانا.
الإخوان في أفكارهم الإصلاحية يلعبون على شرط الواقع، يناضلون داخل مجتمع غير مكتمل الأسلمة بحسب رأيهم، من أجل أن يحضر الدين بمعناه الشامل في واقعهم، وهم مرتبطون بالمجتمع، لم يكفروه ولم يجهلوه، ويتحركون ويغيرون من داخله، يدخلون البرلمان، ويؤسسون الجمعيات المدنية، وبعد حين يحولون تلك المؤسسات بالنضال الدعوي القانوني الدستوري، إلى أوعية تحوي أفكارهم وتجاهد معهم من أجل أن تبسط أفكارهم، وكل أزماتهم تكمن في إبعادهم عن العمل بعيدا عن الشرعية أو عن مؤسسات الدولة، من خلال وسائل الحراك داخل المجتمع.
كما أن الفقه الإخواني الساند لتلك النظرية هو فقه سني أشعري صوفي، بكل ما يحمله من أدبيات سكونية إصلاحية، لا ترغب في الثورية العنيفة أو الجهادية، دفعا للمفاسد أو المضار. وعلى مر تاريخ الجماعة كانت تعتبر أي انجرار للعنف تسرعا في قطف الثمار، وهي ما تنفك تصطدم مع العهود الملكية والناصرية، وإلا عادت سريعا إلى مربع الإصلاح التدريجي، بنقد ذاتي أو بدون.
لكنّ ظل قلق التمكين ساكن داخل بنيان الجماعة، فهل تبقى تفضل صيغة الانتشار حتى تقتنع الجماهير بالفكرة فتشرع بالتغيير؟ أم تحاول المواجهة مع النظم التي تحاول صد الفكر الانتشاري الإخواني والحيلولة دون الإصلاح، حتى يتكمن الناس من الاقتناع دون إرهاب، هل التمكين هو تمكين الدعوة والفكرة أم التنظيم؟ وهل الحماية للرسالة أم للجماعة؟ طبعاً هي أسئلة صعبة جدا وأعتقد أن قلقا من هذا النوع لم يحسم كان وراء تأسيس التنظيم الخاص.
لكن لماذا نشأ التنظيم الخاص؟
دخل الإخوان عالم السلاح أو التنظيم الخاص من بوابة الفتوّة الدينية، وهي روح تجمع بين الروحية والنضالية ولها تاريخ مشهور في الثقافة الإسلامية، وتأثر الإخوان بهم وهذا ما أكده أحمد أمين في كتابه عن الفتوة، ونقله بتوسع خلاق المفكر اللبناني سعود المولى، والفتوة أو القوى الروحية/ البدنية كاتجاه كانت موجودة منذ بذرة الإخوان الأولى في فريق الرحلات، والتدريب الرياضي في الإسماعيلية 1928 ثم في تأسيس فرق الجوالة التي تأسست عام 1936، كنتيجة لقرارات المؤتمر الثالث 1935 بتعميم تجربة فرق الرحلات، ثم من “الكتائب” (التربية الروحية) التي تأسست بعد المؤتمر الرابع عام 1937، ثم التنظيم الخاص وقد تم إنشاؤه في بداية الأربعينيات وبدايات الحرب العالمية الثانية والقضية الفلسطينية، وفي سياق نضالي وطني عام يدفع لتأسيس مثل هذه المجموعات المسلحة، بدءا من الوفد ومصر الفتاة واليسار والحزب الوطني والضباط الأحرار، وواضح أنه كان قرارا تسليحيا أخذته الطبقة الوسطى والقوى النابعة منها، وهناك خلافات كثيرة حول المنشئ الحقيقي هل هو حسن البنا نفسه أم الضابط الإخواني محمود لبيب؟ وما يهمنا هنا هل تأسست للتنظيم الخاص نظرية سياسية ثورية انقلابية تختلف عن الفكر الإصلاحي الكلاسيكي الإخواني، الأمر سنجده منعطفا داخل رسالتي الجهاد والتعاليم، وهما في مجملهما لا تختلفان عن روحية منهاج الرسائل الإصلاحية التي وضعها البنا سوى أنهما كانتا أكثر حماسة، وتتحدثان عن ميدان العمل، وصناعة الموت، وتغذية الحس الجهادي، لكنهما لم تشير إلى أي أحكام شرعية أو ثورية تخص المجتمع والدولة.
غير أن الخطير في التنظيم الخاص، ليس النظرية الثورية الدينية غير المبلورة، الخطير أنه أضحى داخل الإخوان نظامان؛ سري وعلني، دعوي وصدامي. تطور بعد ذلك إلى قطبي (سيد) وبنوي (حسن) وقد اصطدم النظامان نتيجة أن حسن البنا لم ينجح في بلورة نظرية واضحة تجمع بينهما، أو تصور أنه يمكنه تأسيس جهاز عسكري على قاعدة إصلاحية، وأن ما يلزم لتأسيس جماعة إصلاحية سياسية، يمكن سحبه على تأسيس جيش سري، وهو أمر يمكن مراجعته في مذكرات عبد العزيز كامل الذي أثبت مواجهة فكرية عنيفة بين قائد التنظيم السري (عبد الرحمن السندي) وقائد التنظيم العلني (حسن البنا) فبدا أن بين الاثنين ارتباكا على مستوى المفاهيم، حيث لا يجمع بينهما ماء واحد أو فكرة مشتركة، حاول البنا أن يضع للتنظيم هيئة شرعية بقيادة سيد سابق حتى يضبط بوصلة التنظيم على قراءة الإصلاح، لكن تبين أن حسن البنا فقد السيطرة تماما على التنظيم المسلح بعد مقتل النقراشي، لذا أعلن البراءة منهم، وندمه ورغبته في العودة إلى أيام التسابيح الليلية، وترجم ذلك الندم عبر البيان الشهير: ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين، وكان قد تضمن البيان تلك الفقرة (وإني لأعلن أنني منذ اليوم سأعتبر أي حادث من هذه الحوادث يقع من أي فرد سبق له اتصال بجماعة الإخوان موجهاً إلى شخصي ولا يسعني إزاءه إلا أن أقدم نفسي للقصاص وأطلب إلى جهات الاختصاص تجريدي من جنسيتي المصرية التي لا يستحقها إلا الشرفاء الأبرياء، فليتدبر ذلك من يسمعون ويطيعون).
ويمكن القول إنه في تلك اللحظة تبين لرجال النظام العام كأمثال الهضيبي والتلمساني ضرورة العودة بالجماعة إلى أصولها الأولى، يقول التلمساني في كتابه ذكريات: (إن الإخوان ما فكروا يوماً في القوة كسلاح لتغيير أو انقلاب أو ثورة وذلك لأنهم سلفيون وسلفيون بحق وفهم. والسلف رغم ما أثروا به الفكر من قمم وسعة واتساق ينكرون استعمال العنف ضد الحاكم حتى ولو كان فاسقاً وظالماً).
وتبين أن الهدف المؤسس من أجله التنظيم الخاص وهو حماية الدعوة، لم يؤت ثماره، بل سبب مشاكل كثيرة، وأنه حتى لم يفلح في تجنيب الأهوال التي مرت بهم في الخمسينيات، وتأكد أن جماعة الإخوان لا تملك إمكانية تعدد الخطابات أو الانتقال الكلي من خطاب إصلاحي إلى خطاب صدامي أو غيره، وظل هذا العيب على الرغم من إيجابيته في موضوع العنف إلا أنه يحول دون التطوير.
ويمكن القول إنه بعد وفاة حسن البنا تبلور اتجاهان، انعزالي ، وانتشاري، وكل اتخذ طريقه نحو تأسيس نفسه، الفكر الإخواني العلني الانتشاري يعرف طريقه عبر الأدبيات المعروفة للإخوان، وأن خير حماية للدعوة يكمن في انتشاريتها وعملها العلني. ولكن اتجاه المصادمة أو التنظيم الخاص ظل “وجدانا هائما” يبحث عن مجسد لأفكاره الثورية، حيث مر هذا الجهاز بمرحلتين للتنظير الثوري؛ الأولى على يد ضباط الجيش في العصر الملكي، حينما قام جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وخالد محيي الدين وكمال الدين حسين، وكانوا على صلة بالتنظيم الخاص بالقسم على المصحف والمسدس في حجرة مظلمة في حي الصليبة مع عبد الرحمن السندي، كما هو ثابت في مذكراتهم، حيث نجح عبد الناصر بحسب الضابط الإخواني حسين حموده في فك القاعدة الدينية الصلبة للتنظيم الخاص، وتمكنوا من دمج قطاعات منه داخل شبكة أوسع هي تنظيم الضباط الأحرار، وتم انقلاب يوليو ليلة 23 يوليو 1952 على قاعدة وطنية وجبهوية.
ثم التنظير الثاني بعد ذلك على يد سيد قطب الذي يبدو أنه تأخر عشرين عاما على تأسيس التنظيم الخاص حيث شرع في منتصف الستينيات في تأسيس المنهج الثوري الديني الانقلابي، ليصبح هو النظرية الصلبة لإخوان التنظيم الخاص الذي انتقل إلى المرحلة القطبية، ولكن تنظير قطب يؤسس لفكر انعزالي غاضب، غير أنه لا يكفي وحده أن يؤدي للعنف، لذا خرجت من أعطافه جماعتا المسلمين (التكفير والهجرة) والجهاد، وبقي إخوان قطب داخل الجماعة يعززون العزلة والمحافظة.
بعد هذا الإطار النظري، يمكن فهم حقيقة قلق مرحلة الإصلاح والثورة التي تمر بها جماعة الإخوان حالياً، ونفهم لماذا هي تشعر بالتوتر الشديد أمام تلك التساؤلات، وكيف كانت الأكثر حركة في اتجاه الإصلاح والانتخابات والاستفتاء في سياق ثورة يناير، مما أوقعها في صراع مع رفقاء الميدان، لأن هذه هي أدبيات البنا.
لكن الاتجاه الآن نحو الغضب، بسبب الإقصاء عن الحكم بعد أحداث 30 يونيو، جعل نص سيد قطب أكثر جاذبية من نص البنا بسبب موقف قطب الحاد من المجتمع. لكن سيد قطب لا ينتج فكره الغاضب ثورة بل عزلة واغتراباً. وحتى يثور الإخوان لا يكفي أن يكونوا قطبيين، وحتى يثور قطب يجب وضعه في مخطط تاريخي سلفي جهادي من قبل جهاديين، يتم فيه توظيف نصوص لابن تيمية وابن عبد الوهاب، ثم سيد قطب في سند تاريخي متصل، يقول عبدالله عزام: “وجهني سيد قطب فكريا وابن تيمية عقديا وابن القيم روحيا والنووي فقهيا، فهؤلاء أكثر أربعة أثروا في حياتي أثرا عميقا”.
قطب ينتج شحنات غضب، لكن تحويل الغضب إلى ثورة يحتاج إلى فتوى وفقه. الإخوان قد يغضبون، قد يقدم بعض الأفراد على بعض السلوكيات الثورية العنيفة، لكن كل محاولات تثويرهم لم تنجح، حتى رجال التيار القطبي محمود عزت وغيره هم الذين يقودون الاتجاه السلمي مما يؤكد أن قطبا ليس نموذجا مثاليا للحالة الثورية أو حتى الحالة الإصلاحية. وفق هذا أفهم مقولة الأمين العام لجماعة الإخوان محمود حسين في مقابلته الأخيرة على فضائية الجزيرة مباشر: “يسع الفرد ما لا يسع الجماعة”.