خاضت الأمة العربية ربيعها ثم خرجت منه بوهم أن هذه الأنظمة التي جثمت على صدرها عقودًا طويلة، كان من الممكن اجتثاثها بسهولة ويسر، والخلاص منها، بقليل من الصبر والإرادة، غير أن هذه الجموع التي صنعت ربيعها، أو خيل إليها أنها صنعت ربيعًا، لم تكن تدري ماذا يجري وراء الأكمنة، ولم تكن تعلم أن ردة الفعل ستكون كبيرة على صنيعها، في التمرد على أنظمتها الحاكمة، وظنت أن المسألة ستنتهي بانتخابات تنتصر فيها لإرادتها، وتختار من تراه أهلًا لثقتها، وكُفئًا لحمل أمانة حكمها، فاكتفت بما صنعت، وتوجهت إلى صناديق الاقتراع، التي كان يحرسها الحرس القديم ذاته..
فظنت أن الخلاص من القديم يكمن فيها.. فاتجهت نحوها مؤمنة بها،، لتختار لمستقبلها فنظرت في صفوفها، وتفحصت وجوه أبنائها، فلم تجد غير الإخوان المسلمين أهلًا لتسليمهم راية ربيعهم، وصناعة مستقبلهم، ظنًا منهم أنهم الأقوى في حفظ الأمانة، وحملها بصدق وإخلاص، وأنهم الأكثر استعدادًا لمواجهة فلول الأنظمة السابقة، والأقوى على إحباط مؤامراتهم، ولم يكن يدور في خلد أي منهم، أن هذا التنظيم بكل ما لديه من تاريخ وواقع وكفاءات وطاقات وخبراء، وعقول، لم يكن مستعدًا للحظة الحكم، ولم يكن قد استكمل لذلك العدة اللازمة، فخسر وخسرت الشعوب إنجازها.
باعتقادي أن الذي حصل ما كان ليحصل، لو أن ربيع الإخوان المسلمين، سبق ربيع الشعوب، وكنا نقولها لإخواننا في مجالس القيادة، انتظروا ربيعًا إخوانيًا قادمًا، لا تظنوا أنفسكم أنكم بمنأى عن هذا الذي يحدث، فعندنا من العقليات القيادية، ما عند بعض الأنظمة التي أطاحت بها الشعوب، طبعًا الحديث هنا عن “العقليات” وليس عن “الممارسات” حتى لا يذهب البعض إلى أبعد مما قصدنا، “العقلية المركزية، العقلية التبريرية، العقلية الأبوية، العقلية الكلاسيكية، العقلية التبعية، العقلية المأسورة بالواقع، العقلية المرهونة بالماضي، العقلية المسكونة بالخوف من كل شيء؛ التجديد والتطوير والإبداع والإصلاح والإقدام.. إلخ”.
وكانت هذه القيادات تستنكر علينا قولنا، وتستبعده تمامًا، بحكم أنها قيادة ربانية، بمعنى أنها تنتسب لربها -سبحانه وتعالى- وتستمد منه قداسة ما، فهي ليست كغيرها من قيادات الدول والأحزاب والمنظمات، مخالفتها ببساطة تعني ارتكاب معصية ربانية..
وهذه كانت إحدى المصائب الطامة التي أوصلت جماعتنا إلى مرحلة الجمود، الذي يصوره لنا البعض تقدمًا، والتخلف عن الركب الذي يراه البعض تهيئًا واستعدادًا، والمصائب التي كانت تزف لنا على أنها ابتلاءات ما قبل التمكين.. نعم، خطأ هذه القيادات باختصار اجتهاد تؤجر عليه، فكيف يمكن أن تحاسب قيادة ربانية، أو تخالفها، أو تعارضها؟ دون أن تتهم وتنهش سمعتك، وتسود صفحتاك.. الدنيوية والأخروية أيضًا؟؟
أعتقد أن جماعة الإخوان المسلمين كغيرها من الجماعات والأمم والمنظمات، التي تطاول عليها الزمن، وتعاقبت عليها حوادثه، فمن الطبيعي جدًا أن تحتاج إلى تجديد وتطوير في كل شيء، إذا كانت الشركات الربحية، والتي تقدم سلعة أو خدمة مادية محكومة بهذا القانون، قانون التجديد والتطوير، وإلا فإن الزمن سيطوي صفحتها، فكيف بالحركات والجماعات، التي يشكل الإنسان مادتها، أليست بحاجة لمواكبة العصر بتطوراته وقفزاته العلمية الكبيرة، هل يعقل أن نطلب من ابن القرن الواحد العشرين أن يعيش بوسائل ومتطلبات وحاجيات ابن القرن التاسع عشر على سبيل المثال؟!
أظن أن الأمر فيه استحالة بالغة، لهذا كان لزامًا على الجماعة أن تواكب العصر بكل متطلباته، إن لم تعمل على أن تسبقه، وتستفيد من كل معطياته، وتوظفها في وسائلها لتحقيق أهدافها، وتعمل على تطوير خطابها وتجديده بين الفينة والأخرى، وإلا فإن الزمن سيتجاوزها حتمًا، وستصبح بشكل أو بآخر شيئاً من التراث.
بالتأكيد فكرة “الربانية” المسيطرة على عقلية أبناء الجماعة، سترفض كلامنا هذا، من منطلق أن هذا الدين هو دين الفطرة، وأن القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان، كما كنا نحن نرفضه من قبل، قبل أن نصاب بداء التفكير، والتطوير، الذي اكتشفنا بسببه أن غيرنا سبقنا كثيرًا.. ونحن ما زلنا نراوح مكاننا.. والخلل هنا ليس في “الربانية” بل الخلل في فهمها واستيعابها، الاستيعاب الذي يفتح لنا سبلًا في الحياة، ويهيئ لنا أن نقتحم ميادينها، ونحلق في آفاقها بكل عزم واقتدار.
لقد عشنا في ظلال “الربانية” فقراء محتاجين معوزين، نشكو قلة حيلتنا، وتجهم الحياة لنا، ومكر الخصوم بنا، وبقينا نتدثر في السرية والكتمان دهراً، وفي ظني أن “الربانية” لا تصنع بأصحابها هكذا، فهناك فرق شاسع بين “ربانية” و”ربانية”، هناك ربانية العاملين، وهناك ربانية المتواكلين، وأظن أنها هي التي كانت تحظى بوجود أكبر، في واقعنا التنظيمي، لكن الأمر كان يفسر على أنه ابتلاء لا بد منه، حتى نؤهل للتمكين في الأرض.
نعم، رأينا التغيير والتمكين من نافذة الابتلاء والقهر والمنع من السفر، وحجز جوازات السفر، والفصل من الوظائف، والزج في السجون والمعتقلات، هذه هي مفردات الطريق التي ربينا على أنها ستوصلنا إلى التمكين والحكم، ومن لم يتعرض لمثل هذا فمشكوك فيه وفي التزامه وإيمانه..
على كل حال سأتحدث لاحقًا عن العُقد جمع (عقدة) التي يجب حلها وتجاوزها، والتي هي من نتاج التربية الإخوانية، التي نرى آثارها اليوم في واقعنا التنظيمي، وعلى فكرة التربية الإخوانية صارمة وقوية، في صناعة الولاء للتنظيم، لذلك نرى ردات الفعل القوية ضد من يفكر في نقد شيء من لوازم التنظيم، المنهاج، القيادة، الوسائل.. إلخ.
بدء الربيع!!
ما تشهده الساحات الإخوانية في كثير من المناطق، يؤكد أن بوادر الربيع الإخواني قد بدأت، وما حدث ويحدث على الساحة المصرية حاليًا، وما يحدث على الساحة الأردنية أيضًا باعتقادي ليس انشقاقًا، بقدر ما هو حراك لا بد منه، لتحريك مياه الإخوان الراكدة -إلا قليلًا في العمل الخيري والدعوي، منذ سبعين عامًا في الأردن، وثمانين عامًا في مصر- وهو أمر طبيعي يصيب الجماعات كما يصيب الدول، وباعتقادي ما تشهده ساحات التواصل الاجتماعي من حوارات ساخنة، في أكثرها، يتم فيها أحيانًا تجاوز الخطوط التربوية التي فرضتها الجماعة من خلال وسائلها التربوية، يؤكد أننا أمام حراك كبير، ستكون له نتائجه الكبيرة، التي ستنعكس على واقع الأمة إيجابًا بإذن الله، وليس فقط على واقع الجماعة.
فربيع الجماعة سيزهر أمنًا واستقرارًا وتقدمًا وازدهارًا في الأوطان والشعوب، وليس شرطًا أن يكون نتاج هذا الحراك، أو الربيع الإخواني، تلميعًا للاسم ذاته، أومزيدًا من الالتفاف حوله، بل الحاصل باعتقادي أنه سيكون تجديداً جوهرياً قد يطال الشكل والمضمون معًا..
وما يؤكد أن ما نشهده حراكًا وليس انشقاقًا، أن الجميع متمسك بالجماعة، ويدعي وصله بها، ويتنافس على مكوناتها، ويرفض الجميع أن ينسب لغيرها، وليس على قاعدة أن المنشق يريد أن يأخذ الجماعة معه، بل على قاعدة أنه يريد أن يحافظ على انتمائه للجماعة، بغض النظر عن اجتهاده، في هذه المسألة، وهذا شيء حسن باعتقادي، من جهة أننا أمام حراك إخواني، سيسهم بشكل أو بآخر في ميلاد شكل جديد، أو إطار قد يستوعب الجميع، بأفكارهم وآرائهم، وتوجهاتهم.. ولن يتحول باعتقادي هذا الحراك إلى خصومات وعداوات، وإن احتد البعض بأسلوبه، أو أغلظ بلفظه..
الشباب.. مادة الحراك
الشيء الذي يزيد من مساحات التفاؤل في هذا الحراك، أن الشباب يشكلون مادته الرئيسة، وهم من يحدث هذا الجدل حول مفرداته، ويبعث الحياة في ميادينه، والكل يراهن عليهم، وهناك من يعارض ويقاوم، وهذا طبيعي جداً، وهو أمر إيجابي، يصب في مصلحة التغيير، لأن مقاومة التغيير ستجود حالة التغيير المنشودة، وستحسن من صورتها.
الشباب اليوم انخرطوا في مجموعات، سواءً كانت حقيقية، أو من خلال صفحات التواصل الاجتماعي، وبت تشهد عليها نقاشات حادة، لا تستطيع إلا أن تقول عنها، إننا أمام حراك حقيقي، يؤذن بميلاد جديد، ومولود جديد، يستلهم الماضي، ويستوعب الحاضر، ويتطلع للمستقبل.
ميزة هذا الشباب في حراكهم، أنهم ما عادت تنطلي عليهم العبارات المنمقة، ولا الوعود البراقة، ولا حتى التهديدات، أو “الفرمانات” التي تصدر أحيانًا لفرملة هذا الحراك أو لاحتوائه، باعتقادي أن الحراك الشبابي داخل الجماعة عصي على الاحتواء أو التجيير، وهذا مهم جداً للوصول إلى نتائج صحيحة.
كتب لي أن أشارك بعض الشباب حواراتهم، سواءً من خلال صفحاتهم، أو جلساتهم، وقد لمست حماسة ربما فقدها من تقدم بهم السن، من أمثالي، الذين ربما وصلوا إلى حافة اليأس في تغيير واقعهم، أو تجديد تنظيمهم.
الشباب اليوم كما هم بالأمس وفي كل وقت مهم في حياة الأمة، يتصدرون الصفوف، ويدقون الصدور، ويشمرون عن السواعد، ويتقدمون بمهابة وقوة، متسلحين بشهادة الحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم- “نصرني الشباب..”، وشخصيًا أرى بريق الأمل ينبعث من نظراتهم، ويتجلى المستقبل واضحًا بنبرات أصواتهم، حتى وإن عزف بعضها لحنًا شجيًا، أو صدر عن بعضها الآخر صوت منكر، لا بأس فالخير في اندفاعة الشباب وحماستهم.
الربيع الإخواني!!
الربيع الإخواني ربيع سلمي، بكل ما تعنيه السلمية، فلا دماء تسيل فيه، ولا ثارات يتوارثها القوم، ولا لعنات ولا حزازات قاتلة، يختلفون صباحًا ويتزاورون مساء، يحتدون في اللفظ، وقد تقسو منهم العبارة، لكن أحدهم يحث الخطى مسرعاً لزيارة أخيه إن ألم به عارض صحي.. الربيع الإخواني باختصار حراك فكري تجديدي، عصري تطويري، تقدمي مستقبلي، يحاول أن يسبق زمانه، مستفيدًا من ماضيه، مستثمرًا واقعه، متطلعًا لمستقبله.
الربيع الإخواني لا يؤسس لانقسامات حادة، ولا لقطيعة لا لقاء بعدها، ولا لعداوة لا محبة تليها، بل أثبتت التجارب السابقة، أن الملمات تجمعهم وربما توحدهم، وأكبر دليل على ذلك حزب “الوسط” الإسلامي المصري الذي توحدت مشاعره ومواقفه مع الجسم الإخواني الذي انفصل عنه من قبل، وهذا ما نراه في واقع الإخوان الجزائريين.
الربيع الإخواني وهو في بداياته، مهد لخطاب قوي، يتبناه كثيرون، حتى من قبل بعض الرموز القيادية والتاريحية للجماعة، خطاب يضع بجرأة وقوة النقاط على الحروف، في نقد الجماعة في كثير من مفاصلها ومحطاتها، وهو هو بالأمس ما كان يسمح لنفسه أن يسمع مثل هذا من الآخرين.
مآلات الربيع الإخواني!!
أظن أن مآلات الربيع الإخواني، أو الحراك الإخواني، ستكون مختلفة تمامًا عن تلك التي آلت إليها حراكات الشعوب، لأننا باختصار أمام حراك لم يختلف على المرجعيات العامة، والأطر الجامعة، بقدر اختلافه على الآليات والأولويات، تقديمًا وتأخيرًا، ولو أن القلوب اتسعت، والفضاءات كانت رحبة، والعقليات كانت أكثر مرونة، ومجالات التغيير والقبول بمتطلبات المرحلة كانت أكثر واقعية، لتم الربيع الإخواني بهدوء، لكني أعتقد أن الجلبة التي أحدثها أنفع له، وأكثر تصويباً وتطويراً لأسسه.
وأظن أن التربية الإخوانية الصارمة في صناعة الولاء ستؤسس لمرحلة جديدة بأقل الخسائر المادية والمعنوية، لهذا أعتقد أن الربيع الإخواني سيبقى في إطاره العام أكثر أخلاقية، وبالتالي ستبقى الخطوط متشابكة، والجسور الواصلة بين الأطراف جميعاً، جاهزة ذات لحظة حاسمة لإيصال الجمع الذي ظن الناس تشتته، وتقطيعه.
وأظن أن مولودًا جديدًا يتشكل الآن، وهو في مرحلة المخاض، لم تتبين بعد معالمه، ولم تتضح صورته، غير أن تباشير ميلاده قوية، وليس شرطاً حتى يكون مولودًا شرعيًا أن يكون صورة أبيه شكلاً ومضمونًا، يحافظ على اسم العائلة، وموروثها وآلياتها ووسائلها وأهدافها، فأردوغان حين خرج من عباءة تنظيم أستاذه أربكان، لبس عباءة مختلفة تماماً، شككت بنواياه، لا بل حكمت عليه بقسوة، وأخرجته من الدائرة المتعارف عليها، لكن الناس الآن يتسابقون في مدح التجربة التركية الأردوغانية، ويتغنون بمفاتنها، وأصبح أردوغان زعيم التغيير بلا منازع.
على كل حال أعتقد أن الربيع الإخواني سينقل الراية من القديم إلى الجديد، ومن الجمود إلى التجديد، ومن التراث إلى المعاصرة، ومن التقليد إلى الإبداع، ومن التعصب إلى التواصل، ومن الانغلاق إلى الانفتاح، ومن المقاطعة إلى المشاركة، ومن السرية إلى العلنية، ومن الشكوى والتذمر إلى المواجهة والتحدي، وعلى العموم من جيل التأسيس إلى جيل الانطلاق، ومن أبناء القرن السابق إلى أبناء القرن الحالي.
وسيبقى للإخوان المسلمين فضلهم وإن تغير اسمهم، وسيحتفظ التاريخ لهم بمكانة لائقة في أعظم صفحاته.