ليس مفاجئًا على الإطلاق أن يحصل توفيق عكاشة على أعلى الأصوات في انتخابات برلمان” القاهرة 30″، فما دامت هذه هي مصر في طورها العكاشي، فلماذا لا يكون عكاشة هو الأول، ولماذا لا يصل بطموحه إلى الحد الأقصى، معلنًا بثقة أنه رئيس البرلمان القادم؟
يعتبر نفسه “مفجر ثورة”، ومن ثم، هو الزعيم المؤسس لدولة “القاهرة 30 يونيو”، وتعترف له أركان الدولة بهذا الدور التاريخي، في نقل مصر إلى عصر جديد، تغترب فيه عن ذاتها، وتلعق تاريخها وقيمها، ولا تعترف بعمرو الشوبكي، أو حافظ أبو سعدة، أو أي سياسي آخر، توهم أنه قادر على ممارسة اللعب على الحبلين، واضعًا قدمه في “يناير” والأخرى في “يونيو”، ذلك ببساطة أن عكاشة هو التعبير الأمثل عن دولة عكاشية، وكما قلت مرارًا هي مصر في طورها “العكاشي” الذي اندلع قبل أكثر من عامين، ثم أخذ الأمر يتطور ويستفحل، حتى تجاوز مرحلة الكوميديا التجارية الرخيصة، وبلغ حد الخلل العقلي، والجنون الرسمي، وبعد أن كانت المسألة محصورة في شخصٍ مولع بتقمص شخصيات هاربة من فصول الفانتازيا، في كتب التاريخ الصفراء، تحولت إلى سياق عام من الهزل، تذوب فيه الفروق بين ما يصدر عن الدبلوماسية وما “ينشع” من ملاهي الـ”توك شو” الليلية.
الآن، يمضي نائب الدولة العكاشية الأول، في طريقه المرسوم، لكي يجلس على منصة رئاسة البرلمان، المنصب الثاني، حسب الدستور، بعد رئيس الدولة، والذي في حالة غياب الأخير، يقفز مباشرة إلى المقعد الأول في مقصورة الحكم، رئيسًا للبلاد، ورمزًا لها، ولو بشكل مؤقت.. ولك أن تتخيل الصورة جيدًا، حال غياب عبدالفتاح السيسي، تحت أي ظرف، تؤول السلطة إلى رئيس مجلس النواب، فتخرج “الأهرام” تقول: الرئيس عكاشة يتلقى اتصالًا من خادم الحرمين الشريفين.. أو يعلن التليفزيون الرسمي: الرئيس عكاشة يصدر مرسومًا بتمديد حالة الطوارئ.. وتتحدث “الوطن” عن الرئيس عكاشة الذي يرفض الرد على اتصال من الرئيس الأميركي، محذرًا (Shut up your mouth Obama)، ولم لا إذا كان كل شيء في مصر ينطق بعكاشية زاعقة!
لك، أيضًا، أن تتخيل، الآن، أن عبدالفتاح السيسي قرّر تعيين عواجيز يناير، ممن قدموا خدمات جليلة لمشروع يونيو، نوابًا في مجلس النواب، أمثال عبدالجليل مصطفى ومحمد أبو الغار وكمال الهلباوي وجورج إسحاق، ودارت عجلة الانعقاد، ليقف عبدالجليل مصطفى، مثلًا، طالبًا الكلمة مرددًا: سيدي الرئيس توفيق عكاشة، أو أن السيد رئيس المجلس الموقر يقرع المنصة بعنف، طالبًا من العضو محمد أبو الغار ألا يتحدث من دون إذن، ويهدده بطرده من الجلسة، إذا لم يلتزم بالنظام!
تجاوز الواقع الفانتازيا بمراحل، وصارت النكتة لا تضحك أحدًا، والزلازل فقدت القدرة على هز الوعي، وبات من الممكن أن تقرأ عن اتفاق شراكة استراتيجية بين القوات المسلحة و”بيتزا هت”، أو تعاون بين الجيش المصري وشركات إسرائيلية متخصصة في تنظيم حفلات رأس السنة.. أليس القرار الجمهوري الذي أصدره عبدالفتاح السيسي بالسماح للقوات المسلحة بإنشاء شركات بمساهمة رأس مال أجنبي كافيًا لتوفير الغطاء القانوني لدخول كل المؤسسات العالمية الخاصة، صاحبة العروض الأفضل؟
أليس رئيس أكبر دولة عربية متفرغًا للتفاوض مع الشركات العالمية، من جنرال إليكتريك، إلى سيمينز، وحريصًا على التباحث بنفسه مع رجال الأعمال من الوزن الثقيل؟
إنها لحظة الحقيقة، وسقوط الأكاذيب التي روجوها، وهم يدعون الناس للتطوّع للخدمة في مشروع الثورة المضادة، تحت وهم أن كل الوسائل مشروعة، من أجل القضاء على حكم محمد مرسي، وبعدها سيذهب العسكر، وتنكسر الدولة العميقة، وتأتي إليهم السلطة، طائعة صاغرة. الآن فقط حرّي بالذين لعبوا أسوأ أدوار تراجيديا “القاهرة 30 يونيو”، ووضعوا أيديهم في أيدي الأوغاد أن يتبينوا مواقعهم، هناك تحت أقدام الفاتحين الغزاة، من غلاة الدولة العكاشية.
حرّي بالدكتور محمد البرادعي أن ينظر مليًا في صورة مصر الآن، وهي تئن تحت ضربات جيوش العكاشيين، ويسأل نفسه: هل أنت راض عما فعلت، بنفسك، بثورة، كُنتٓ ملهمها؟
هل تتذكر ذلك الهتاف “شد القلوع، يا برادعي، مفيش رجوع يا برادعي”؟