ماذا لو عاد أحدهم من معسكر السيسي إلى معسكر الثورة، هل نغلق الباب في وجهه أم نرحب به؟!
لو أغلقنا الباب، فنحن نشجع كل حلفاء السيسي على الاستمرار في دعمه إلى النهاية، لأنه ما من سبيل آخر. وإذا فتحنا الباب فنحن نتعامل بسذاجة إزاء أناس كان لديهم كل الأسباب الأخلاقية والسياسية والواقعية للتراجع، بعد التفويض، بعد المذابح، بعد نكث العهود بعدم الترشح، بعد عسكرة الدستور، بعد تزوير انتخابات الرئاسة، بعد قانون التظاهر، وبعد التسريبات المخجلة التي فضحت عمالة الجنرال، والتمويل الإماراتي لحركة تمرد، والضلوع في “تجهيز” ثورة زائفة، وإشعال الغضب الشعبي بالمزج بين إخفاقات الإخوان وإعلام الشحن التعبوي الكاذب، والمزور، ما أدى إلى 30/6 ، وما بعدها، تلك التي كان البعض يتصور أنها حراك ثوري طبيعي، دفعت إليه ظروف حكم الإخوان في عام واحد!!!
ألم يكن كل هذا كافيا لتحريك الضمائر الحجرية ومن ثم المواقف، والمواقع، والانحيازات، على افتراض صدق النوايا والانخداع في الآلة الإعلامية الجبارة، والتحرك تحت ضغط كراهية الإخوان والإسلاموفوبيا؟
ألم يكن عام حكم ليبراليي المصري الديموقراطي، وأبو الغار، الذي “فوجئ” بتغيير الدستور “وهو بيتعشى”، كافيا ليتراجع الجميع عن مساندة نظام خسيس إلى هذا الحد، ويحتقرهم إلى هذه الدرجة؟!
ألم تكن دماء مئات الشهداء من كافة التيارات، والأحزاب، بل والمهن، الذين عوقبوا بالموت، لأنهم صحفيون، لأنهم ماشون في الشارع، لأنهم مواطنون، بل لأنهم موجودون، هنا والآن، كل هؤلاء وأكثر، ألم يشكلوا لأنصار السيسي أسبابا كافية للتراجع طوال هذه المدة السابقة؟
السؤال، طرحه سياق استضافة قناة الشرق المناهضة للانقلاب العسكري لواحد من أنصار السيسي، يعلن تراجعه عن تأييده، وتبرؤه من الدم، منذ 25 يناير إلى الآن، بعدها بيوم ظهر الشخص نفسه في مداخلة تليفونية على إحدى القنوات المؤيدة للانقلاب ليعلن تبرؤه من تبرئه، أنا مع السيسي، أنا مع النظام، أنا فقط ضد الدم!!، في اليوم الثالث، ظهر لمرة ثالثة على الشرق، ليعلن تبرؤه من تبرئه من تبرئه، و”يقلع ملط”، حتى بدا كفوطة صحية بجناحين: (انقلاب وثورة)، إلا أنها، مع الأسف، “تُسرب”!!
الحالة التي تسبب فيها ظهور هذا الشخص، بهذه الوضعية، أثارت جدلا في المجال الثوري العام، خاصة عند الإسلاميين، يفترض أن هذا هو “الاصطفاف” الذي يدعوننا إليه، رافضة الوقوف إلى جوار أصحاب “السوابق” الإجرامية، ونائية بثوريتها وتضامنها عن الموضوع برمته، وهو ما دفع أحد أبرز السياسيين المصريين الرافضين للانقلاب، والداعين للاصطفاف الوطني في مواجهته، ومالك قناة الشرق، د. أيمن نور، أن يغرد على تويتر قائلا:
“السيسي ينبغي أن يتوجه بالشكر لمن يتصور أنه من خصومه، بينما هو يعيد لمعسكره كل من يسقط منه، ويرهب كل من يفكر في مراجعة موقفه ليصطفوا خلف السيسي”.
أتصور أن التعامل مع معسكر السيسي بهذا الحس التطهري، العقدي، أقرب إلى معسكرات الحرب الدينية منها إلى صراع على مصادر القوة والسلطة، وإعادة توزيع الثروة بشكل عادل، لا شك أن أخلاقية المعركة حاضرة بقوة، وربما “عقديتها” عند “بعض” متشددي التيار الإسلامي، الذين جنحوا إلى تكفير السيسي واعتبار كل من عاونه كافر بالضرورة، ورأوا في عودة المتراجعين “توبة”، دون البعض الآخر الذي يدرك أبعاد الصراع، ويحرر مفاهيمه من أي كهننة، منحازا إلى رؤية ثورية “أكمل”، و”أوقع” وأكثر “سياسية”، و”دنيوية”.
في تصوري، أن السؤال، ليس هو: “هل نرحب بالمتراجعين أم نقصيهم”؟ إنما هو: “هل يعني استبعاد المتراجعين من صفوف الثورة، أنهم مستبعدون من مستقبل الوطن”؟
الأول، مرفوض شكلا وموضوعا، لأن الوقت قد فات. أما الثاني، فهو موضوع لمناقشات دارت في تجارب سابقة لنا، وتأسس على أثرها لجان للمصالحة، وهيئات، من شأنها إعادة ترسيم العلاقة بين المتعاونين مع الأنظمة التي قامت ضدها الثورات وبين المجتمع، و”التصالح” مع كل من لم يتورط بشكل “مباشر” في جرائم، دون غيرهم من المتورطين بشكل لا يستوعبه التسامح، وإلا فقدت الجهود الانتقالية من وضعية ما قبل الثورة إلى ما بعدها “جديتها”.
بشكل واضح، أهلا بمن عاد، متأخرا، بالأحرى: ما بعد الوقت الضائع، طاقة إيجابية لاستنفار المزيد، وحسب، دون زيادة أو نقصان، ودون حملات لتبييض الوجه، أو تلميع الصدأ، أو تبرئة ساحة الملطخين ببقع الدم وآثار شي لحوم البشر !!
أخيرا: لا يتعلق الأمر باحتكار لمفهوم الثورة، أو توزيع لصكوك غفران، أو منعها، إنما بتقدير الأمور بقدرها، وفقا لتجاربنا السابقة مع حسن النية، أو سوء التدبير، أو كليهما، بالأحرى: وفقا لتجارب “استعباطنا”.