أثار انتباهي خبر غريب نشر في الشروق يوم ١١ نوفمبر ٢٠١٥ عن احتفال القوات المسلحة “بمرور ١٠١ عاما على المشاركة المصرية في الحرب العالمية الأولى، وما قدمه الجيش من بطولات وأعمال جليلة ساهمت في الانتصار للقيم والمبادئ الإنسانية.” وأضاف الخبر أن الحفل تضمن فيلما تسجيلايا يعرض اشتراك “الجيش المصري مع قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى في آسيا وإفريقيا، وعلى الجبهة الأوروبية بمائة ألف مقاتل من سلاح العمال والهجانة فكانوا سببا رئيسيا في انتصار الحلفاء واستشهد عددا منهم ودفنوا بمقابر الكومنولث بأوروبا، ومنح العديد منهم وسام فيكتوريا الذي يعد أرفع الأوسمة العسكرية التي تمنح للقادة الذين أثروا في تاريخ البشرية.”
والحقيقة أنني ذهلت من هذه المعلومات التاريخية، فما هو متاح لدينا من وثائق ومصادر ومراجع لا تشير إلى قيام الجيش النظامي المصري بإرسال جنود لميادين القتال في أوربا، ولا تذكر الكتب العديدة التي تناولت تاريخ الحرب العالمية الأولى أية تفاصيل عن جنود أو ضباط مصريين تقلدوا “وسام فيكتوريا” نظير اشتراكهم في الحرب. ولا أعلم من أين استقى الفيلم التسجيلي الذي أشارت إليه الشروق معلومة أن هناك العديد من الضباط والجنود المصريين مُنحوا وسام فيكتوريا، فهذا الوسام من أرفع الأوسمة العسكرية البريطانية ويعطيه العاهل البريطاني بنفسه في احتفال مهيب في قصر باكنجهام ليس “للقادة الذين أثروا في تاريخ البشرية” كما زعم الخبر، بل كان مقصورا على الجنود والضباط البريطانيين الذين “يظهرون شجاعة فائقة في مواجهة العدو”، ولكن جرت تعديلات على اللوائح المنظمة للإنعام بهذا الوسام كان آخرها تعديل عام ١٩١١ والذي سمح للجنود وصف الضباط والضباط الهنود بتقلد هذا الوسام الرفيع. ومن وقت استحداثه عام ١٨٥٦ وحتى الآن مُنح “وسام فيكتوريا” لـ ١٣٥٥ شخصا لا تشمل قائمة أسمائهم اسما مصريا واحدا.
ومما يثير الدهشة فعلا هو توقيت هذا الاحتفال الهام، فإذا كان الجيش المصري قدم فعلا تضحيات بهذا القدر لجهود الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، فلم انتظرت القوات المسلحة لأكثر من مائة عام للاحتفال بتلك التضحيات التي “ساهمت في الانتصار للقيم والمبادئ الإنسانية”؟
على أن الأهم من حجم الجيش هو حقيقة أن قادة وضباط هذا الجيش كان أغلبهم إنجليز، ولم يسمح لأبناء البلد بالترقي لرتب أعلى من صاغقول أغاسي، أي رائد، وكان كل القادة الكبار، بما فيهم القائد العام للجيش الذي كان برتبة سردار (أي مشير) – كانوا كلهم بريطانيين. وحتى عندما سمح لغير البريطانيين بالترقي للمناصب العليا، كان أغلب هؤلاء الضباط الجدد من الجراكسة أو الأتراك.
هذا عن حجم وطبيعة الجيش المصري في الثلاثين سنة الأولي من الاحتلال، أي السنوات من ١٨٨٢ إلى ١٩١٤. أما موقف الجيش عندما اندلعت الحرب في أغسطس عام ١٩١٤ فكانت تحكمه اعتبارات قانونية ودبلوماسية معقدة يجب شرحها بعناية.
فمصر كانت، حسب القانون الدولي ولاية عثمانية، وكان السلطان العثماني هو صاحب السيادة الشرعي للبلاد. ولكن كان لمصر وضع خاص نظير عاملين محوريين، أولهما أن حكم هذه الولاية، وبفضل جهود محمد علي، كان محصورا في عائلة واحدة هي عائلة الخديو التي انتزعت هذا الامتياز، امتياز الحكم الوراثي، عام ١٨٤١. وثانيهما أن مصر خضعت لاحتلال عسكري بريطاني عام ١٨٨٢ وبذا أصبحت السلطة الفعلية، عكس السلطة الشرعية، في يد القنصل العام البريطاني الذي تحول لاحقا إلى المندوب السامي البريطاني.
ومما زاد من تعقيد موقف مصر هو موقعها الجيو-استراتيجي، فبعد افتتاح قناة السويس عام ١٨٦٩ زادت أهمية مصر بالنسبة للإمبراطورية البريطانية، ذلك أن القناة أصبحت أهم شريان مائي يصل بين رأس الإمبراطورية في لندن وجسمها في الهند، وأصبحت مهمة حماية القناة من أهم الهواجس العسكرية التي شغلت بال الساسة والعسكريين البريطانيين.
وإزاء هذا الوضع المعقد قانونيا وجغرافيا وجدت بريطانيا نفسها في موقف ملتبس عندما اندلعت الحرب في أوربا في الأسبوع الأول من أغسطس ١٩١٤، فبعد إعلان بريطانيا الحرب بيوم واحد، وللحيلولة دون إعلان مصر الحياد، أجبرت السلطات البريطانية الحكومة المصرية على إصدار قرار ٥ أغسطس الشهير الذي قضي بمنع التعامل مع ألمانيا ورعاياها، وكأن مصر بذلك أعلنت الحرب على ألمانيا. ولكن بعد أن أعلنت الدولة العثمانية رسميا الحرب على بريطانيا يوم ٢ نوفمبر أصبح الوضع في مصر أكثر تعقيدا، فكان معنى قيام الحرب بين بريطانيا والدولة العثمانية أن أصبحت مصر من الناحية القانونية في حرب مع بريطانيا، وأصبح مشروعا للمصريين أن يحملوا السلاح ضد البريطانيين دفاعا عن سلطتهم الشرعية، أي السلطان العثماني.
وبالتالي سارعت بريطانيا في إيجاد حل لهذه المعضلة، وجاء الحل كما هو معروف، بإعلان الحماية البريطانية على مصر (وليس بضمها كإقليم يتمتع بحكم ذاتي أو كمستعمرة من مستعمرات الإمبراطورية البريطانية) يوم ١٨ ديسمبر ١٩١٤. وهنا تظهر أهمية قرار آخر اتخذته بريطانيا، وهو قرار فرض الأحكام العرفية يوم ٢ نوفمبر والذي أدخل في الخطاب القانوني المصري مفردات ما زلنا نعاني منها لليوم، ففي هذا القرار قال ج. ج. مكسويل، قائد الجيوش البريطانية في مصر، “أن أحسن ما يمكن للأهالي عمله للصالح العام هو الامتناع عن كل عمل من شأنه تكدير صفو السلم العام أو التحريض على التنافر ومساعدة أعداء ملك بريطانيا وحلفائه، والمبادرة باتباع جميع الأوامر التي تعطى لحفظ السلام العام وحسن النظام عن طيب خاطر.”
على أن ما يهمنا هنا هو حقيقة وضع الجيش المصري في هذا الموقف الملتبس. فبعد إعلان الأحكام العرفية وتمهيدا لإعلان الحماية أصدرت السلطات العسكرية البريطانية منشورا هاما يوم ٧ نوفمبر ١٩١٤ جاء فيه “ولعلم بريطانيا العظمى بما للسلطان بصفته الدينية من الاحترام والاعتبار عند مسلمي القطر المصري فقد أخذت بريطانيا العظمى على عاتقها جميع أعباء هذه الحرب بدون أن تطلب من الشعب المصري أية مساعدة.”
وبالتالي فبصدور هذا المنشور أصبح الجيش المصري معفى من تقديم أي مساعدة في الحرب ضد ألمانيا أو الدولة العثمانية. على أنه وبسبب صعوبة المعارك وفداحتها، وبسبب عدم حسم الحرب في غضون شهور قصيرة كما كان يأمل القادة العسكريون، خنثت بريطانيا بالعهد الذي قطعته على نفسها بألا تطلب مساعدة عسكرية من مصر في معاركها المتعددة، وبالتالي فقد شارك القليل من الوحدات القتالية من الجيش المصري النظامي في الدفاع عن مصر. وكان الدفاع عن قناة السويس أهم مهمة كُلفت بها تلك الوحدات. ومن أشهر المعارك التي خاضها الجيش النظامي المصري معركة ليلة ٢-٣ فبراير ١٩١٥ عندما تمكن الجيش العثماني بقيادة جمال باشا، قائد جيش الشام، من عبور سيناء والوصول للقناة وأخذ في تركيب جسر للعبور للضفة الغربية للقناة. على أن بطارية الطوبجية (أي المدفعية) المصرية الخامسة بقيادة الملازم أول أحمد أفندي حلمي تصدت للقوات العثمانية وصوبت نيرانها عليها فأبادتها. واستشهد أحمد حلمي في هذه الواقعة. ولا يترك أحمد شفيق باشا في “حولياته” ذكر هذه المعركة دون أن يضيف قائلا: “على أن هذا الأمر، أي اشتراك الجيوش المصرية في الدفاع عن مصر، جاء مخالفا لما تعهد به الانكليز من تحمل أعباء الحرب وحدهم دون الاحتياج لأي مساعدة من قبل المصريين.”
وباستثناء تلك المعركة نكاد لا نرى للجيش النظامي أي دور قتالي في الحرب العالمية الأولى. ولا يعني هذا أن مصر لم تشارك بجهود أخرى في الحرب. فقد تحملت مصر أعباء جسيمة لإمداد وتموين وعلاج مئات الآلاف من جنود الحلفاء الذين وفدوا على البلاد من كل أرجاء الإمبراطورية البريطانية (وخاصة الأنزاك، أي الأستراليين والنيوزيلانديين، الذين وفدوا على مصر استعداد لمعركة جاليبولي في ربيع ١٩١٥). وكان على المجتمع المصري أن يمد الحلفاء بعشرات الآلاف من العمال، فيما عرف بفيالق العمال والهجانة المصرية، ليس للقيام بأعمال قتالية كما زعم خبر “الشروق” بل للقيام بأعمال النقل والمواصلات مثل إمداد خطوط سكة حديد في سيناء (لدحر القوات العثمانية)، والسودان (للقضاء على حركة السلطان علي دينار في دارفور)، ونقل العدد والمهمات على ظهر عشرات الآلاف من الجمال.كما اشتركت بعض كتائب العمال في تعزيز شبكة المواصلات في معارك الدردنيل. ونشرت الأهرام في ١٢ ابريل ١٩١٧ خبرا مفاده أن فرقة عمال مصرية وصلت لفرنسا وأن أعضاء هذه الفرقة كانوا رجالا “ممتلئين صحة وقوة ونشاطا.” وكانت هناك فرقة عمال أخرى اشتركت في مسرح العمليات في العراق.
وفي ظل عدم وجود إحصائيات دقيقة عن حجم العمال المصريين الذين أوفدوا ضمن هذه الفرق لمسارح العمليات المختلفة، يصعب تحديد حجم المشاركة المصرية في الحرب العالمية الأولى. على أن هناك رقم يكثر تداوله في هذا الصدد، ألا وهو مائة ألف مصري. ويبدو أن مصدر هذا الرقم هو التقرير الذي كتبه حسين باشا رشدي، رئيس مجلس الوزراء، في أوائل سنة ١٩١٩ ردا على مشروع دستور كان قد أعده وليم برونيت، مستشار وزارة الحقانية، والذي اقترح فيه تشكيل مجلس نيابي يهيمن عليه الأوربيون. ففي تقريره فند حسين باشا رشدي أقوال برونيت ومزاعمه، وأكد على حق مصر في الاستقلال التام، وأكد على ضرورة إنهاء الحماية. وللتأكيد على فكرته بأحقية مصر في الاستقلال ولتعضيض حجته بضرورة إنهاء الحماية ذكّر حسين باشا رشدي البريطانيين بما بذلته مصر من مجهود في الحرب فقال: “إن مصر بذلت للجيش البريطاني معاونة من أفضل وجوه المعاونة الفعلية، فجعلت تحت تصرف القائد العام جميع مواردها من مال ومؤونة ووسائل نقل ورجال. فأرسلت إلى فلسطين جيشا للمساعدة المستديمة يبلغ تعداده ١١٧٠٠٠ مصري (فرقة العمال والهجانة)، ولقد أوجب استبقاء هذا الجيش بهذا العدد على الدوام استخدام نحو مليون ونصف مليون من رجال مصر.”
على أنه وبرغم من استخدام حسين باشا رشدي للفظ”جيش”، إلا أننا لا يجب أن نأخذ هذا مأخذا حرفيا. فالـ”جيش” الذي يقصده رئيس مجلس الوزراء في تقريره لم يكن جيشا نظاميا، أي جيشا جند مقاتلوه من مواطني البلد، وانتمى قواده عرقيا ولغويا وإثنيا لهذا البلد، وكانت أهدافه ومعاركه مسخرة لخدمه هذا البلد. فأولا، توضح كل أدبيات تلك الفترة الحالكة من تاريخنا أن هؤلاء الفلاحين لم يجندوا بل جُلب أغلبهم من قراهم بالسخرة، ووعدوا بأن سخرتهم تلك ستعفيهم من التجنيد لاحقا. أما البقية الباقية من هؤلاء الرجال فاستُدعوا من الرديف، أي الاحتياط، وألحقوا بقيالق العمال تلك. ثانيا، لم تكن تلك القيالق فيالق قتالية بل كانت فيالق نقل وتموين، وبالتالي فلا يصح وصف المائة ألف رجل الذين قدمتهم مصر بأنهم “مقاتلين” كما زعم الخبر، بل كانوا عمالا ألحقوا بوحدات نقل وتموين. ثالثا، ظل البريطانيون يتقلدون كل الرتب القيادية للوحدات التي انضوى تحتها هؤلاء الرجال، أي أن هؤلاء الفلاحين المسخرين بالآلاف كانوا يعملون تحت قيادة ضباط بريطانيين لا مصريين. ورابعا، لم يكن هذا “الجيش” يخدم مصر بل كان يخدم الإمبراطورية البريطانية، وخاصة في حملتها على فلسطين، تلك الحملة التي مهدت لوضع فلسطين تحت الانتداب وتنفيذ وعد بلفور المشئوم.
وليس الغرض من ذلك الكلام التقليل من المعاناة التي وقعت على المصريين أثناء الحرب العالمية الأولى أو التهوين من التضحيات الغالية التي قدمها المجتمع المصري طوال سنوات الحرب. ولكن الزعم بأن هذه التضحيات قام بها الجيش النظامي زعم لا أساس له من الصحة، فلا الجيش المصري النظامي اشترك في هذه الحرب بالأعداد المزعومة، ولا كان ذلك الجيش وقتها جيشا قوميا “اصطف خلفه المصريون وتلاحموا معه … في مواجهة التحديات” كما يزعم الخبر.
وبناء عليه أتساءل ما الذي حدا بقواتنا المسلحة اليوم أن تتذكر فجأة هذا “الجيش” وأن ترى نفسها امتدادا طبيعا له، الأمر الذي دعاها للاحتفال بالذكرى الـ١٠١ لمشاركته في الحرب العالمية الأولى؟
* الدكتور خالد فهمي – أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد والجامعة الأميركية في القاهرة