في زمن قريب كنت أسير في الدرب وحيدا، لا يصادقني أحد، ولا يصدقني أحد!
أفكاري أحلام شاعر في نظرهم، أسرد أدلتي، يفندونها، دائما يبدأون بجملة (الواقع يقول)، فأرد عليهم (الواقع لفَّقَهُ وَهْمُكُم وخوفُكُم)، أحاول أن أشرح لهم أن الحلم ممكن، وأن الخيال ليس جريمة، أحاول أن أفهمهم أن الإنسان بلا خيال يصبح جثة هامدة، لا معنى للحياة بلا حلم ولا خيال، فتراهم يقولون لي (الواقع يقول!).
الاستشهاد بالواقع لم ينفعهم، بدأ الحلم بالتحقق، انهارت أنظمة، فقالوا لي (صدفة)، وحين بدأت يد الحماقة ببناء نظام جديد قلت لهم (هذا بيت عنكبوت)، فقيل لي (ولكن الواقع يقول)… عرفت حينها أنه قدري… قدري أن أرى… أو ربما هو قدرهم أن تعمى بصائرهم.
انهار بيت العنكبوت، وجاء نظام جديد، يريد أن يثبت قوته بالبطش، نظام لا يملك من مؤهلات الحكم إلا الدبابات، بدا في أول الأمر قويا، بدا وكأنه سيبقى للأبد، راهنت عليه كثير من الجماعات والدول، قلت لهم (لا تراهنوا على الحمار الخاسر)، فقيل لي (الواقع يقول)، فقلت لهم (الواقع لا يقول… بل هذا صوت نفوسكم المريضة وأهوائكم البغيضة)، فقيل لي اخرج منها إنك رجيم.
ليس جديدا عليَّ أن أمنع، لقد عشت غالبية عمري شاعرا ممنوعا من غالبية المنابر، محروما من الجماهير، ولكن الحقيقة أنني وصلت إلى الملايين في غالبية الدول العربية، وبقي الآخرون محبوسين في منابرهم التي لا تصل لأحد، يحصلون على جوائز وهم نكرات، ينالون تكريمات في قاعات فاخرة بلا جماهير.
في بداية مسيرتي قلت لأحد الشعراء المحسوبين علينا من الكبار إنني أنوي أن أكتب في السياسة، لأن الأمة تحتاج إلى ذلك، ولأن هذا الجيل يحتاج صوتا شعريا يحمل رسالته ويعبر عنها، فتحدث معي عن الشهرة، والمال، والأضواء، وأنني لن أجد منبرا ولا جمهورا، قال لي يومها (الواقع يقول ذلك)، فعرفت أنه أفّاك، مزيف، وقد أثبتت الأيام ذلك بعد عدة سنوات، فسقط مع غالبية النخب التي سقطت، سقطت كل أشعاره تحت بيادات العساكر وهو يشجعهم على هدم البيوت، وعلى بناء الجدران بيننا وبين إخوتنا، شاعر يزعم عشق الحرية وهو يرى في جدار برلين أنموذجا ينبغي على مصر أن تحتذيه في علاقاتها مع فلسطين.
في مسيرتي رأيت كثيرا من مدعي البطولة، رأيت من يهجو الحاكم وهو في مأمن منه، يهجوه وهو يضمن بنسبة مليون في المائة أن هذا الحاكم لا يستطيع أن يمسه. حينها فقط … رأيت عشرات الشعراء يعلون صوتهم في الهجاء، بعضهم بلغت به درجة الصفاقة أن يتفل على من يهجوه في التلفاز، في مشهد لم تعرفه القصيدة العربية، ولم يره تاريخ الشعر فصيحا كان أو عاميا.
كانت سوقا رائجة… وانفضت!
أسأل اليوم أين الشعراء؟ أين الهجاؤون؟ أين البطولات والعنتريات التي رأيناها على الشاشات شهورا طوال؟
لا أجد سوى صمتا مخزيا أو خزيا صامتا!
مع تكرر سقوط الاستدلال المبتذل (الواقع يقول) فهم بسطاء الناس أن الواقع ليس سوى مرآة لخوفهم أو شجاعتهم، فمن يرى الدنيا بعين الخائف سيرى الواقع أبوابا موصدة، ووحوشا مترصدة، ومن يرى الدنيا بعين الشجاعة سيرى الواقع نوافذ مشرعة، ومواكب حرية مسرعة.
الواقع مجموعة افتراضات يتخيلها كل إنسان كما يريد، الواقع حزمة من المسلمات لم يجرب غالبيتنا أن يخضعوها لأي نوع من أنواع الشك، لذلك ينهار واقعنا بسهولة جدا مع أول اختبار حقيقي.
الواقع يقول إننا اليوم أمام صنم يهوي، يحتاج دفعة من يد مخلصة لتخلصنا من هذا العار الذي نراه على الشاشات يوميا.
منذ عدة شهور كان الشعب يتساءل (كيف نسقطه؟)، اليوم يتساءلون (متى موعدنا؟ متى نلتقي في الميادين لإسقاطه؟).
إنها مسألة وقت!
في ذكرى محمد محمود؟ في ذكرى مجلس الوزراء؟ في ذكرى ثورة يناير؟ في ذكرى خلع مبارك؟
يتساءلون عما بعده، يتساءلون كيف نحافظ على مكتسباتنا هذه المرة؟ يتساءلون كيف نضمن أن نحقق أهداف ثورتنا وأن نوقف انهيار الدولة؟ كيف نخلص مصر من هذه العصابة التي لا هم لها سوى قتلنا وتجويعنا لحساب كروشهم وكروش الجالسين في واشنطن وتل أبيب؟
غالبية الشعب المصري العظيم لا يهتم بمشاكل السياسيين المتعلقة بالدساتير والقوانين، لا يغرق في تفاصيل الاصطفاف، لا يؤخر وثبته عودة فلان أو علان لمنصب، الشعب سيتحرك قريبا، العقل الجمعي لهذه الأمة سيحدد لحظة الانفجار، ولن يوقفها دبابة، ولن يتحكم فيها تنظيم، ولن يؤثر فيها قنوات فضائية، ولن يوجهها قوى دولية… سيتحرك الناس قريبا جدا… ولن يطالبوا إلا بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، مهما حاول البعض أن يدس على أجندة الحراك هوية مصر، أو شكل الدولة، أو علاقاتها الدولية… كل ذلك باطل.
الواقع يقول: إننا أمة غاضبة، ولن تهدأ حتى تحقق ما مات في سبيله آلاف من أبنائها، حتى لو دفعت في ذلك مزيدا من الدماء.
المصدر: عربي 21