كانت التوقعات تشير إلى احتمالات ارتفاع مؤشر القمع في مصر، عقب الزيارة الخائبة التي مني بها الجنرال المنفوخ بالأوهام، إلى بريطانيا، غير أن أحداً لم يكن يتصور أن يصل بهم الجنون إلى هذا المستوى من العصف بالحريات الشخصية وحقوق الإنسان في التملك والتنقل والتعبير.
في ضربة واحدة، تم اختطاف مؤسس “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية”، الحقوقي والصحافي حسام بهجت، والمذيعة في التلفزيون المصري، عزة الحناوي، ومؤسس ورئيس مجلس إدارة صحيفة المصري اليوم، إحدى الأذرع الإعلامية المهمة للانقلاب العسكري، ورجل الأعمال المعروف بـ”حلواني النظام”، صلاح دياب، ثم مصادرة مقالات، وقرارات بالمنع والإيقاف عن الكتابة، علناً، وليس بناء على تعليمات سرية صامتة، كما كان يجري في أزمنة أخرى للقمع.
وأخيراً، تأتي الذروة الدرامية في “تأليف” اتهام ضخم للصغيرة، إسراء الطويل، بالتورط في مخطط لاغتيال شخصية سياسية كبرى، انتقاماً لشهداء مجزرة رابعة العدوية، حيث وزعت سلطات الدولة القمعية الفاشلة بياناً على وسائل الإعلام يشرح ويفصل في وقائع المخطط الذي اعترفت به المصورة الصحفية التي اعتقلتها السلطات قبل نحو ستة أشهر، ولم تستطع أن تخترع لها تهمة، حتى عاد الصنم جريحاً مكسوراً من بريطانيا.
يبدو النظام في هذه الحالة من هستيريا القمع وهلوسة الغضب الجريح وكأنه تلميذ فاشل بليد، رسب في مادة، فقرّر أن ينتقم من هذه المادة بإشعال النار في الكتاب الخاص بها، وإغاظة المعلم وسبه وإهانته. المادة اسمها “حقوق الإنسان”، الموضوع الذي يسأله فيه الناس أينما رحل، ولا يستطيع الإجابة، على الرغم من أنه قدّم نفسه للغرب، باعتباره فعل ما فعل في الرئيس المدني المنتخب ديمقراطياً، بهدف منع البلاد من الاندفاع إلى حالة من تغييب الحريات، خصوصاً حرية الفكر والتعبير، وحقوق الإنسان.
اكتشف التلميذ الخائب أن ما قدمه من إجابات تافهة على أسئلة الحالة الحقوقية والديمقراطية لم تقنع الغرب، ولم تجعلهم يبتلعون كوارثه، نظير استعماله في مشروع ما يسمى “الحرب على الإرهاب”. وهنا، قرّر تطهير البلاد من الحقوق والحريات، فوجد حسام بهجت، الناشط الحقوقي العائد من منحة في الولايات المتحدة، نفسه أمام القضاء العسكري، بتهمة نشر تحقيق صحافي عن قضية صدرت فيها أحكام. ثم وجد صلاح دياب، رجل أعمال النظام ومؤسس واحدة من الصحف المروجة له، يديه في “الكلبشات”، يقتاده زوار الفجر المدججون بالسلاح من منزله إلى الزنزانة، قبل أن يتحفظوا على ثروته وعائلته، وأرصدته البنكية، لأنه تجرأ ودافع عن رأسماله الذي أرادته الحكومة لنفسها، ونشرت صحيفته مانشيت بعنوان “حتى أنت يا بوتين”، عقب دقائق من كذبة رئاسية، تقول إن بوتين اتصل هاتفيا بالزعيم، وأبلغه باستئناف السياحة الروسية إلى مصر قريبا.
كيداً في الأوروبيين والأميركيين، وفي ظل حالة الهذيان عن المؤامرة والشماتة، إلى آخر هذه القائمة من المعلبات العكاشية، قرر عبد الفتاح السيسي أن يأخذ الشعب المصري رهينة، ويضع السكين على رقبة الجميع، مهدداً بنحرهم، إن لم يعيدوا له وضعية “طفل العالم المدلل”، حتى وإن كان فاشلاً وجاهلاً وغير قابل للتعلم والاستيعاب والتطور.
ووسط هذا الجنون، يفتح السيسي كتاب “كوريا الشمالية”، ويسلك مثل حاكمها، مخوفاً شعبه من الخارج، الوغد، ومهدداً مواطنيه بالويل، إن عارضوه أو ناقشوه، ثم يقتل “الحالة الحقوقية”، ويمزق كتابها وقوانينها، كفعل انتحاري يقدم عليه أي بليد يائس من النجاح.
في مصر الآن شيء من هذا، إذ باتت هناك جريمة خيانة عظمى، اسمها “العيب في الذات السيسية”، ينظر لها ويسمم بها وعي الجماهير فريق من الصحافيين والإعلاميين والمثقفين والسياسيين، يحتويهم مشروع عكاشي واحد، ويعتبرون غياب السيسي عن المشهد إجهازاً على امتيازاتهم وإنهاء لأدوارهم، وإظهاراً لدمامتهم المهنية وقبحهم الإنساني.
هؤلاء يبيعون للناس وهْم أن انتقاد الجنرال خيانة للوطن، وأن المطالبة بتخليص البلاد من فشله ورعونته ودمويته عمالة للغرب الإمبريالي، وأن تناول الكوارث التي تقع على يديه شماتة في مصر والمصريين.
ليس الوطن هو الجالس على كرسي حكمه، والقابض على سلطته. الوطن هو الإنسان والتاريخ والجغرافيا والقيم، فما بالك لو كان الممسك بالسلطة فيه قرصاناً وقاتلاً وسافكاً للدماء ومبدداً للتاريخ والجغرافيا ومهدراً للقيم.. وفوق ذلك كله فاشل، وصديق للأعداء ومعاد للأشقاء، فعن أي شماتة يتحدث الباعة السرّيحة في أزقة الوطنية المزيفة وحواريها؟