للقهر تاريخ عربي بعمر الأسلاف، تاريخ يشبه ذهولنا من فزع الخسارات المتتالية لكل ما حلمنا به يومًا.يتضاعف القهر كل يوم أكثر من قدرتنا على متابعة مذابحه، بوجهٍ أكثر شراسة وقسوة، متجليًا في أحداث الزمن العربي الجديد وفظاعاته، زمن ما بعد الربيع العربي؛ ففي دورة نكوص ردّتنا على أعقابنا مخذولين، نفكر بثورات عربية مرّت هنا وهناك، لنفكر بدماءٍ سُفِحت بلا أثر، بصراخ المقهورين في ساحات الشوارع والأزقة وميادين الحرية، بأسماء من قتلوا ومن بقوا في ظلمة السجون.هذا “القهر العربي العتيد” هو ما رأيته، أنا وملايين غيري، مجسدًا في دموع إسراء الطويل، المصورة الصحافية المصرية، ابنة الـ23 عامًا، عندما صُعقت بذهول، مثلنا جميعًا، من حكم القاضي المصري تجديد حبسها شهرًا وخمسة عشر يومًا على ذمة القضية.
تحيلنا القضية التي لُفقت للصحافية، إسراء الطويل، إلى عهد الأنظمة الشمولية القامعة التي تتفنن في اختراع التهم لمعارضيها، وفي إدانتهم بشتى الوسائل.قضية إسراء الطويل منهكة لجميع من تابعها، بدءًا باختطافها حتى تمديد حبسها؛ فهي قضية بلا أساس قانوني، وبلا أدلة، مبنية فقط على رغبة الادعاء في تجريم إسراء، حيث وجهت لها تهم متعددة، من اتهامها بالانضمام إلى جماعة إرهابية إلى بث أخبار كاذبة لتكدير الأمن والسلم المجتمعي والاعتداء على الحرية الشخصية للمواطن والإضرار بالوحدة الوطنية، عدا أن المروّع هو اتهام إسراء الطويل باتخاذها من الإرهاب وسيلة لتنفيذ أغراضها، وهو ما يعني تجريمها بتهمة الإرهاب، وقيامها بأعمال عدائية ضد المجتمع المصري، ومن ثم، إحالة قضيتها إلى دائرة الإرهاب.
لطالما استخدمت الأنظمة العربية الشمولية الإرهاب لتجريم معارضيها على اختلاف توجهاتهم السياسية والفكرية، وأكثر من ذلك جعلت من تهمة الإرهاب مفهومًا عائمًا، غير قابل للقياس أو بناء استدلالات عليه.ولذلك، هي تقوم بوظيفة استثنائية للأنظمة القمعية، حيث تصير تهمة الإرهاب دمغة لوسم وعي المجتمع، فالمتلقي يتقبل أن الآخر قام بأعمال عدائية ضده وضد المجتمع، ويذعن المتهم نفسه، في النهاية، لسلطة فكرة كونه ارتكب جريمة، ولا يعود يتذكّر أنه ضحية؛ ولأن تهمة “الإرهاب” ليست موجهة ضد السلطة، وإنما ضد المجتمع، تفتقت الذهنية الأمنية لنظام الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، عن اتهام المعارضين له بالإرهاب والمساس بأمن المصريين، وهذا ما جعل وجهات النظر في الشارع المصري تتضارب بين متعاطف مع قضية إسراء وآخرين يبررون احتجازها.
تكشف قضية إسراء الطويل عن سعي النظام الأمني المصري إلى تقديم تعريف غريب للإرهاب، وتجعلنا نفكر في سمات الإرهابي، حتى نستطيع إدانته بناء على أعماله، لنخلص إلى أن الإرهاب في هذه الحالة هو من ضاق بحرية إسراء وكاميراتها، ولم يشفق على إعاقتها بعد إصابتها برصاصة في عمودها الفقري، في إحدى تظاهرات الربيع المصري.
اختطفت إسراء في 1 يونيو الماضي، في العاشرة ليلًا، مع زميليها صهيب سعد وعمر محمد، من على كورنيش النيل في المعادي، وتم إخفاؤها قسريًا ومصادرة حريتها وكل حقوقها القانونية، ولم يتم التحقيق معها إلا بعد أسبوعين من اختطافها.تُحاكم، اليوم، بتهمة الإرهاب، بينما يتجلى الإرهاب في أبشع صوره في اختطافها وإخفائها، فالإرهاب هو احتجاز إسراء الطويل ومصادرة حياتها أكثر من 155 يومًا، بعيدًا عن أسرتها وأصدقائها.
الجرم الذي ارتكبته إسراء الطويل، وآلاف من رفاقها الذين ينتمون إلى مشارب سياسية مختلفة، القابعون الآن في السجون المصرية، سواء من صدرت في حقهم أحكام تعسفية، كالحكم بالإعدام، أو من يجري تجديد حبسه، جُرم هؤلاء أنهم كانوا القوة المحرّكة لثورة 25 يناير بمطالبها العادلة، وفي مقدمها إسقاط المنظومة السياسية والعسكرية والاقتصادية لنظام حسني مبارك الذي لم يسقط، وإنْ تمت محاكمته وسجنه، إذ ما لبث أن عاد نظامه بكل عتاده القمعي ومتماسكًا أكثر من السابق.
عاد نظام مبارك من بوابة المؤسسة العسكرية نفسها، ومن أخطاء محمد مرسي في أثناء توليه الرئاسة، وتجاوزات جماعة الإخوان المسلمين في حق المعارضين، ليعود العسكر بقبضة عبد الفتاح السيسي الأمنية، الوجه الأكثر قبحًا لسلطة مبارك، ولتبدأ محارق محاكم التفتيش وملاحقة المعارضين له، سواء من جماعة الإخوان المسلمين، أو من الناشطين اليساريين والقوميين الرافضين سلطة العسكر التي عمّقت الانقسامات والشروخ في الوحدة الوطنية للمصريين.
يتقاطع الواقع الاجتماعي والسياسي في مصر، خصوصًا مظاهر الانفلات الأمني ومصادرة الحريات، في أوجه عديدة مع بعض بلدان الربيع العربي، وإن كانت تلك البلدان (اليمن وليبيا وسورية) تعيش أشكالًا مختلفة من الاحتراب الأهلي، إلا أن المفارقة في الوضع المصري “وَهم الأمن والسلام” الذي يعمل إعلام السلطة على تكريسه وغرسه في وعي المصريين، ليتغاضوا عن مصادرة حقهم في الاحتجاج والتظاهر والاختلاف والتعبير عن مظلومياتهم السياسية والحقوقية والاقتصادية، ولا مبالاتهم أو تواطئهم الصامت تجاه ما يحدث الآن في مصر، من محارق يومية للحريات السياسية والفردية وامتلاء السجون بالمعتقلين والمعتقلات، وحبسهم دون جرم، واستمراء التنكيل السياسي بكل صوت معارض لنظام السيسي.
في حين تعيش كثير من بلدان الربيع العربي خريفها الحزين، تعيش مصر واقعًا كارثيًا ومرشحًا لمزيد من الانفجار، إذ تكمن الصيغة الانفجارية لنظام السيسي في المنهجة المنظمة لقمع الحريات وانتهاك حقوق شريحة واسعة من المصريين، وخوضه حربًا بلا هوادة ضد الأصوات المطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية، من قوى سياسية وناشطين ومثقفين وصحفيين، وتجاهل تخليق مصالحة وطنية ومعالجة تدهور الأوضاع الاقتصادية.لكن، يبدو أن النظام المصري لم يعد يقبل حتى فكرة محاولة الإصلاح من داخل النظام نفسه، ويسرع في دفع مصر والمصريين إلى مزيدٍ من الفوضى والعنف.
النظام المصري، نظام السيسي، متسامح وطيب القلب، فقد تصالح مع دولة إسرائيل، العدو التاريخي لمصر والمصريين في فترات تاريخية أمست اليوم بعيدة، حيث صوّت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح عضويتها في لجنة الاستخدامات السلمية للفضاء الخارجي؛ لكن هذا النظام، طيب القلب مع إسرائيل، لا يتسامح مع أبنائه، خصوصًا المطالبين بالإصلاح والحرية، لينتهي مصيرهم بالسجون.فتحية لـِ”سجون النور” في مصر، تحية للإرهابية إسراء الطويل، وللمحامية المصرية السجينة، ماهينوز المصري، وهي تقول لسجانها: “عُمر السجن ما غيّر فكرة..وعُمر القهر ما أخّر بكره”.