خيمت أجواء جنائزية على أغلب العواصم الغربية مع إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية في تركيا، والتي وصفت في وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية على أنها “صدمة” و”يوم أسود في تاريخ تركيا”.
الصورة التي رسمتها وسائل الإعلام الغربية كانت قاتمة للغاية، حيث حذر سيل من التقارير والافتتاحيات ومقالات الرأي لشخصيات معارضة للعدالة والتنمية من “العودة إلى الاستبداد والتسلط”، معتبرة أن النتائج تمثل تهديدا “لاستمرار الحياة الديمقراطية” في البلاد.
في خضم هذه التحليلات السوداوية غابت حقيقة كبرى، تتمثل بأن أردوغان كان قد ارتضى نتائج انتخابات حزيران/ يونيو الماضي، التي خفضت من تمثيل حزبه بالبرلمان، وسعى لتشكيل حكومة ائتلاف وطني، ولكنه مع رفض أحزاب المعارضة المشاركة في التركيبة الحكومية، اتجه للدعوة لانتخابات مبكرة وفق مقتضياتالدستور التركي.
يحيط بهذا “المستبد” المفترض زمرة من أنصاف الطغاة والطغاة الكاملين المغلظين من كل جانب، في الأردن وممالك الخليج وفي العراق وسورية، وفي الوقت ذاته، وعلى بعد بضع مئات من الأميال، يحكم جنرال عسكر يعمد قبل عامين فقط إلى الاستيلاء على السلطة بانقلاب مغمس بالدماء أطاح برئيس منتخب ديمقراطيا وزج به في غياهب السجون، وداست دباباته على إرادة الشعب وسحقت جماجم وجثث المئات من المتظاهرين السلميين، شيبا وشبانا، رجالا ونساء، في واحدة من أبشع مجازر التاريخ المعاصر.
ومع ذلك يُستقبل هذا الحاكم المستبد الموغل في دماء شعبه ويحتفى به في العواصم الغربية في باريس وبرلين، واليوم يستعد ديفيد كاميرون لاستضافته في مقره رئاسة الوزراء بلندن.
الرسالة الموجهة إلى شعوب المنطقة واضحة جلية، إما ديمقراطية على مقاسنا تأتي بمن نريد ونحب أو دكتاتور ولو كان غليظا فظا كريها، سنسد أنوفنا ونمد له أيدينا مصافحين ونلتمس له سلسلة من الأعذار تتفنن جوقة “خبرائنا” وصحفيينا ومعلقينا في ابتداعها، من التنمية الاقتصادية الزائفة إلى الذكاء السياسي، وإن أعوزتنا الحجج نستنجد بمقولات كسنجر وأولبريت ومنطق الواقعية السياسية.
والمثير للسخرية حقا أنه في الوقت الذي شارك فيه أكثر من 85% من الأشخاص المؤهلين للتصويت في الانتخابات التركية، العدد ذاته تقريبا امتنع عن المشاركة بشكل جماعي في الانتخابات البرلمانية الهزلية المصرية الأخيرة، حارمين بذلك المشير ومؤيديه في واشنطن ولندن من ورقة التين التي يحتاجونها ليواروا عورة حكمه الانقلابي الديكتاتوري.
فيما يُشيطَن أردوغان، يُفرش السجاد الأحمر للسيسي، رغم أن الأول قد وضع بلاده على سكة الديمقراطية بعد خمسة انقلابات عسكرية وعقود طويلة من الحكم العسكري المطلق، في حين أن الثاني انقلب على ديمقراطية ناشئة مقوضا أحلام وتطلعات ثورة يناير.
المضمر في التحليلات الغربية لما حدث في تركيا هو أن ناخبي حزب العدالة والتنمية رعاع لا وعي ولا عقل لهم، تلاعب أردغان بمشاعر الخوف لديهم من الفوضى وعدم الاستقرار الاقتصادي والأمني، وكأنه ليس من حق الأتراك أن يخشوا على مصالحهم، وقد باتوا محاصرين بدائرة متقدة من الأزمات على حدودهم المباشرة وغير المباشرة، في سوريا والعراق واليمن وليبيا ويتحملون أعباء مليوني لاجئ سوري ترفض العواصم الغربية استقبال حتى ربعهم.
وعلى هؤلاء أن يدركوا أن الذين اتجهوا لصناديق الاقتراع لهم ما يكفي من الوعي والبصيرة لاختيار من يرونه الأقدر على التعبير عن مصالحهم والاستجابة لمخاوفهم المشروعة، شأنهم في ذلك شأن أي ناخب في أي ديمقراطية في العالم.
جوهر المشكلة أن جل المحللين والكتاب الغربيين يفسرون ويحكمون ويدونون من خلال عالمهم الخاص وسرديتهم المهيمنة غير قادرين عن تجاوز حواجزهم النفسية والثقافية والإديولوجية ليضعوا أنفسهم في موقع الناخب التركي أو حيثما أتيحت انتخابات حرة في المنطقة ويفهموا دوافعه وتطلعاته. يمكن أن نسمي هذه الحالة بالمركزية الأوروبية أو التمحور حول الذات أوالاستشراق التي كانت سابقا تبرز في قراءات المبشرين المسيحيين والرحالة وموظفي الإدارة الاستعمارية الأوروبيين لسلوك السكان المحليين واليوم تتجسد في المعلق والمراسل والخبير والصحفي. لغة الخطاب تغيرت أما بنيته ومضمونه ورسائله المشفرة فقد بقيت هي هي، تقع إعادة إنتاجها باستمرار بأنماط مختلفة.
لا أحد من أبناء المنطقة مازال يصدق خطاب الغرب حول الديمقراطية ويأخذه مأخذ الجد؛ فبعد غزو العراق وتدميره تحت شعار جلب الديمقراطية الموعودة أطيح بمستبد واحد لتحل محله سلسلة من المستبدين الطائفين، وبدلا من استنشاق عبق الحرية، انبعثت رائحة الموت والخراب ودخان الحرب الأهلية والإرهاب في كل ركن من العراق “المحرر”، وما عاد أوباما يتغنى بثورة يناير المجيدة أو يتمنى بحرقة لو كان شابا من شباب ميدان التحرير فالشباب والشيب يملؤون سجون السيسي فيما يستقبل سجانهم بأذرع مفتوحة في جميع أنحاء العواصم الغربية، وبدلا من توجيه أصابع الاتهام إلى الطغاة الحقيقيين الذين يزدحم بهم الشرق الأوسط، تتم اليوم شيطنة أردوغان الرئيس الوحيد المنتخب ديمقراطيا في المنطقة، هذا إذا استثنينا تونس على الجهة الأخرى، في المغرب العربي.
لذا، نصيحة بسيطة للساسة وجيش المعلقين: حينما يتعلق الأمر بالديمقراطية في هذا الركن من العالم، الأجدر بهم ملازمة الصمت.