بشكل درامي مثير، اكتشفت مصر السيسية أن “الشيوعية هي الحل”، وراحت جيوش إعلام وثقافة الجنرال تبشّر بالفكر الأحمر، وانطلق سباق محموم نحو “بَلْشفة” الدماغ المصرية، بترويج أن روسيا بوتين هي الخير كله.
وتحوّل الجميع، من رأس الدولة، ممثلاً في السيسي ووزير خارجيته، إلى مؤخرتها الإعلامية، إلى دعاة ومبشرين بالأفكار والمبادئ والطموحات السوفييتية القديمة التي لم يعد يتذكرها الروس أنفسهم.
بضغطة زر، أصبح بوتين في مصر زعيماً وقائداً لمحور الخير، في مواجهة محور الشر الذي يضم أميركا والسعودية وقطر وتركيا، وكل من يرفض الغزو الروسي لسورية، من أجل القضاء على ثورة شعبها، والحفاظ على الحكم الطائفي العائلي برئاسة بشار الأسد.
اصطبغت مصر باللون الأحمر، ليكون أكتوبر/تشرين الأول المصري صورة أكثر لمعاناً من أكتوبر الأحمر، كما تحدّث عنه أرشيف الثورة البلشفية الشيوعية، بقيادة لينين وستالين وتروتسكي في عام 1917، حيث تغلّب بلاشفة روسيا على المناشفة فيها. في مصر الآن، كل الصحف “برافدا” الصحيفة السوفييتية الأشهر التي تولّى جوزيف ستالين رئاسة تحريرها في وقت ما، قبل أن يقفز إلى قمة السلطة، وكل نجوم إعلام القفا اكتشفوا فجأة أنهم أحفاد ماركس ولينين وأبناؤهما، يتحدثون عن قيصر روسيا الحالي وكأنه المسيح المخلّص ورسول العناية الإلهية لإنقاذ مصر وسورية والعراق واليمن، ودحر إمبراطورية الشر الأميركية التي كانوا، حتى وقت قريب، يتعبّدون في محرابها.
يقول فلاديمير بوتين، في حواره هذا الأسبوع مع محطة تلفزة روسية، “لدينا – والشكر للرب – علاقات جيدة جداً مع الدول الإسلامية، سواء كانت شيعية أو سنية”.
وعن موقف مصر السيسية من الحرب الروسية على سورية، سأله المذيع: هل تقصد أن أصدقاءنا في مصر يؤيدون الضربة؟ فردّ بوتين: “ليس في مصر فقط، في مصر ودول سنية أخرى يؤيدوننا”.
الملامح الستالينية البلشفية في مصر لا تخفى على متابع، فلا مجال لرأي مخالف أو معارض لسلطة الجنرال الذي تحدّث مختالاً، ومحتالاً، للصحافة الأميركية قبل أسابيع، عن أن حرية التعبير في مصر غير مسبوقة، فيكفي أن يطيّر طفل صغير بالونة صفراء، عليها أصابع أربعة، حتى ينضم هذا الطفل إلى أكثر من خمسين ألف سجين ومعتقل، بتهمة الدعوة إلى العنف والإرهاب، أو أن يكتب أحد جملة قصيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، يرفض فيها الحكم العسكري، حتى تتحرك القوات، وتقتحم مسكنه وتأتي به مقيداً، ثم تعلن بفخر أنها نجحت في اصطياد واحد من أعداء الوطن، كما فعلوا أمس مع قريبة محمد أبو تريكة، النجم الأكبر في تاريخ الكرة المصرية، وما فعلوه مع اللاعب نفسه، حين صادروا أمواله وأملاكه ومنعوه من الكلام ومن الحركة، بحجة أنه متعاطف مع شهداء مذبحة القرن التي نفذتها قوات عبد الفتاح السيسي في ميدان رابعة العدوية.
يبدع بلاشفة “حرية التعبير غير المسبوقة” أكثر، حين يطيحون رئيس القناة السابعة في التلفزيون الرسمي المصري من منصبه، بتهمة الاشتباه في تألمه لما حدث في رابعة العدوية، ويفتشون في أرشيف صفحته على “فيسبوك”، ويعلنون العثور على صورة له يشير بأربعة أصابع، فيصل الاستنفار في الأجهزة الأمنية والإعلامية درجته القصوى، وتتم إحالته للتحقيق العاجل.
وتتألق مصر البلشفية أكثر وأكثر، بإصرارها على استمرار حبس فتاة صغيرة تتوكّأ على طفولتها وإعاقتها، لليوم الخامس والثلاثين بعد المائة، بحجة خطورتها على الأمن القومي، وأن يمر عيد آخر على الفتى سيف أسامة (16 عاماً) في عتمة الزنزانة، بتهمة الانضمام لجماعة معارضة للحكم وحيازة شماريخ، بعد اختطافه من مدرسته، وهو في طريقه لأداء امتحان آخر العام، قبل مائة وخمسة عشر يوماً.
ويبلغ الإبداع منتهاه، حين يتحوّل الأستاذ سيد ياسين، المفكر القومي اليساري الثمانيني، إلى فني دعاية وإعلان في انتخابات البرلمان، مروّجاً مذيع المؤسسة الأمنية، صاحب واقعة بث مكالمات أمن الدولة المسجلة للناشطين السياسيين، على الهواء مباشرة، باعتبارها قمة الإعجاز العلمي في الإعلام، ليصفه بأنه “مفكّر الأمة المجدد”، فيما يُفصل العلامة الدكتور حسن الشافعي، أستاذ الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، من جامعة القاهرة، مع نائبه في رئاسة مجمع اللغة العربية، الدكتور محمود حماسة عبد اللطيف، ويلحق بهما الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، مطرودين من جنة البلاشفة.
يبقى فارق وحيد بين بلاشفة مصر وبلاشفة روسيا، إذ كان البلاشفة الروس في صراع مسلح مع “المناشفة” فيها، أما في مصر فالبلاشفة والمناشفة (حملة مناشف السلطة) يد واحدة.