بدت الهبّة الفلسطينية، التي سماها فلسطينيون تفاؤلاً، وأملاً في تطويرها وتعظيمها بـ”انتفاضة القدس”، في كثافتها النضالية واتساعها واستمرارها حتى اللحظة، مفاجأة، وتفتقر إلى المقدمات الطبيعية، بالنظر إلى أن التحديات التي تدفع نحو هكذا هبّة، كانت دائمًا موجودة، ولا سيما الهجمات الاستيطانية المتزايدة في الضفة، والاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى، والتحديات القائمة طوال الوقت في المدينة المقدسة، وإذن بدت هذه الهبّة للبعض وكأنها نتاج إرادة مركزية فوقية، دفعت الجماهير للاشتباك مع العدو لتحقيق أهداف سياسية محدودة، تجدد مبررات استمرار صاحب هذه الإرادة. وقد عزز هذا التصور، بالإضافة إلى الطابع المفاجئ للهبّة وسماتها الخاصة من حيث الكثافة والانتشار، انفجارها من بعد خطاب الرئيس الفلسطيني في الأمم المتحدة.
لكن وبالرغم من أن محاولات الربط المنطقي، والعمليات المخبرية، والمعادلات الحسابية، تنهار في هذا النمط من الثورات الشعبية، حتى لو كانت في مستوى هبّة آنية؛ فإن ثمة مقدمات منطقية تغيب عن هذه المحاولات التي تبدو جامدة في منطقيتها أكثر مما تبدو منطقية في ذاتها، إذ أن المقدمات المباشرة للهبّة لا تتعلق عضويًا بتلك الإرادة المركزية المفترضة، حتى لو افترضنا أن صانعي تلك المقدمات امتلكوا حدسًا سياسيًا غريزيًا أملى عليهم التوقيت الصحيح، والمقصود هنا تحديدًا، عملية بيت فوريك “إيتمار” التي نفذها عناصر من حركة حماس بحسب مصادر العدو الصهيوني التي ادعت اعتقالهم، وعملية الطعن التي نفذها الطالب الجامعي مهند الحلبي في مدينة القدس، والذي ينتمي لحركة الجهاد الإسلامي، حتى وإن انطلق من دافع ذاتي يصعب عزله عن أجواء التعبئة التي يمارسها فصيله المقاوم.
هنا أيضًا وفي المقدمات المباشرة لا يمكن إغفال تصاعد الاعتداءات الصهيونية على المسجد الأقصى في شهر سبتمبر، والتي جاءت بعد شهر تصاعدت فيه أعمال المقاومة الشعبية في الضفة الغربية على إثر جريمة الحرق التي اقترفها مستوطنون بحق عائلة دوابشة، ولا يمكن إغفال موقع القدس كبؤرة نضالية متحررة من أي إرادة مهيمنة على الضفة الغربية، هذه البؤرة كانت تدفع حالتها نحو الضفة الغربية بالتدريج طوال عامين تقريبًا، ولكن المناخ العام الذي بدأت تتولد في رحمه هذه الهبّة، بدأ مع بداية العام 2014، بما شكل، وكما يظهر بالمتابعة الدقيقة، مؤشرًا حقيقيًا على إمكان انفجار حالة كفاحية أكثر تركيزًا وكثافة وانتشارًا في الوقت نفسه.
تُظهر الإحصائيات، تصاعد أعمال المقاومة في الضفة الغربية منذ العام 2011، حتى وصلت ذروتها في العام 2014، وبنسبة زيادة اقتربت من الـ80% عن العام الذي سبقه، الأمر الذي طوى هذا العام على إرهاصات جدية لهبّة أكبر وأوسع، فقد بلغ مجموع الأعمال المقاومة في هذا العام 3699 عملاً مقاومًا، كان منها 16 عملية طعن، و8 عمليات دعس، بينما بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية 74 شهيدًا في مقابل مقتل 19 صهيونيًا، وكان من أبرز أحداث العام 2014، إضراب الأسرى الإداريين الذين استمر لشهرين، بما واكبه من محاولات حثيثة، من طرف حركة حماس، لنقل أصداء الإضراب إلى الشارع الفلسطيني، وأسر المستوطنين الثلاثة، والحملة الواسعة على الضفة الغربية، وحرق الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير.
اللافت، أيضًا، في أحداث العام 2014 هو الارتفاع الكبير في أعمال المقاومة في شهر يوليو تحديدًا، والذي تصدّر شهور السنة كلها بواقع 886 عملاً مقاومًا (أي أكثر من أعمال المقاومة في كامل العام 2013)، و18 شهيدًا، وذلك بالتزامن مع حرب العصف المأكول في قطاع غزة، بما يكشف عن الأثر الكبير لتلك الحرب على النشاط الميداني في الضفة الغربية.
لكن الدور الأهم لهذه الحرب، تمثل في أثرها المعنوي الهائل على الجماهير في الضفة الغربية، بعدما أظهر المقاتلون الفلسطينيون في قطاع غزة أداء قتاليًا فريدًا، بدا أقرب إلى المعجزة بالنسبة إلى الظرف القاسي الذي تعانيه المقاومة هناك، وبعدما كشفت حيثيات القتال عن إرادة صلبة أعادت تشكيل بعض الظروف الموضوعية المناوئة لصالح المقاومة، بينما قهرت هذه الإرادة بقية الظروف بالصبر والمواصلة والعمل الدؤوب، وحسن التنظيم والتخطيط والاستعداد، ويمكن العودة لنتائج آخر انتخابات في جامعة بيرزيت لفحص الأثر الكبير لتلك الحرب على الجمهور الفلسطيني.
جيل فلسطيني كامل في الضفة الغربية، لم تستنزفه الانتفاضة الثانية، ولم تقيده إكراهات عملية السور الواقي؛ وجد نفسه أمام انفلات عدواني صهيوني مذل ومهين، تجسد أساسًا في الاعتداءات الأخيرة على المسجد الأقصى، وفي الخطر الحقيقي الذي شكّله المستوطنون في الضفة الغربية، وذلك في مقابل مشاهد البطولة التي قدمها المقاتل الفلسطيني في قطاع غزة. هذا الجيل لم يدخل أي عملية تنظيمية، ولم يتدرج في الأسر والخلايا، ولم يتلق شيئًا من التعبئة الوطنية في ظل استهداف مميت للحركة الوطنية في الضفة الغربية في السنوات الثمان الأخيرة، ولكنه تشبّع بروح المقاومة بفعل تلك الحرب المفصلية التي شنّها العدو قبل أكثر من عام على قطاع غزة.
يمكن القول أن هذا جانب من المناخ العام الذي أحاط بظروف انفجار الهبّة الأخيرة، والتي أتاح لها ارتباك السلطة إزاء انفجارها المفاجئ وسرعة انتشارها فرصة للاستمرار الزماني والانتشار المكاني، خاصة وأن ذلك كله تزامن مع إقرار قيادة السلطة بفشل مشروع التسوية بعد طول الحديث عن قنبلة آتية في خطاب الأمم المتحدة.
هذه الهبّة امتلكت قدرًا من التحرر لصدورها في الأساس عن بؤرتها المقدسية التي لا تخضع لقدرة السلطة الفلسطينية، ثم لالتحام قطاعات هامة من الحركة الطلابية بها، ولكن وبالرغم من ذلك يبقى موقف السلطة الفلسطينية، الذي يقلّب حساباته في هذه اللحظة، ولحركة فتح بما تعنيه من غطاء شعبي للسلطة؛ محوريًا حين محاولة توقع مآلات هذه الهبّة الشعبية العظيمة.