طُرِحت العديد من التحليلات مؤخرا في إطار محاولة تفسير دوافع وأهداف التحرك العسكري الروسي الأخير في سوريا، كما انتشرت العديد من النظريات والمقولات التي تشبه إلى حد ما الأساطير نظرا لافتقادها إلى الدلائل التي تشير على الأقل إلى إمكانية أن تكون صحيحة بعيدا عن التخيّلات الذاتية، ولعل من أبرز هذه الأساطير المتعلقة بالتدخل العسكري الروسي في سوريا:
1) التدخل الروسي يهدف إلى القضاء على تنظيم “داعش”
غير صحيح. الحقائق اليوم على الأرض تشير بالأرقام وبما لا يقبل الشك أو الطعن أن روسيا لا تستهدف تنظيم “داعش” وإنما تستهدف كل المجموعات الأخرى المعارضة لنظام الأسد بدليل المعلومات المتقاطعة التي تدل على هذا الأمر. إذ أعلن الجانب التركي أنّه ووفقا للمعلومات الاستخباراتية المتاحة له، فإن الجانب الروسي استهدف داعش في هجمتين فقط من أصل أول 57 هجوما قامت به القوات الروسية. وزارة الخارجية الأميركية قالت إن 90% من الهجمات التي تقوم بها روسيا لا تستهدف تنظيم “داعش”، ومثل هذا الكلام قالته وزارة الدفاع الفرنسية أيضا لاحقا.
لكن على فرض أن هذه الحقائق هي مجرّد أكاذيب، فإن الوضع الميداني داخل سوريا يقول إنّه وعلى الرغم من ادعاء الحكومة الروسية بأنّها تستهدف “داعش” وهو ما يفترض أن يعني إضعاف التنظيم، إلا أن التنظيم يتقدّم بشكل كبير لاسيما في حلب. هذا يؤكد حقيق المعطيات عن استهداف روسيا للمعارضة المناوئة للأسد وليس “داعش”، لا بل إن هذا الوضع يطرح علامات استفهام وتساؤلات كبيرة عن دور العمليات العسكرية التي تقوم بها روسيا في مساعدة تنظيم “داعش” على التقدّم باتجاه معاقل المعارضة المناوئة للأسد في وقت تقوم هي بقصفها. وفي هذا السياق من الممكن فهم دور تنظيم “داعش” في المعادلة الروسية على أنه ذريعة وليس غاية.
2) التدخل الروسي يأتي لسحب الملف السوري من إيران واستلام زمام المبادة
غير صحيح. الوقائع على الأرض تفنّد هذه الأسطورة، فلا يوجد تنافس روسي- إيراني على الملف السوري ولا يوجد صراع ولا يوجد حساسيّة بين الطرفين ولا يبيّت أحدهما للآخر، هذه الافتراضات كلها هي مجرّد تخيّلات على شكل أمنيات تناقض المعطيات المتوافرة للجميع. بالتأكيد لكل من البلدين أهدافه الخاصة سواء فيما يتعلق بسوريا أو في ما يتعلق بالبعد الإقليمي أو الدولي المرتبط بالملف السوري، لكن لا يعني أبدا أنّهم على مسار تنافسي أو صدامي. ما يجري اليوم في سوريا بين روسيا وإيران يتخطى مستوى التنسيق إلى مستوى التعاون وصولا إلى التكامل.
عندما رفضت بلغاريا واليونان فتح أجوائها للطائرات الروسية التي تحمل السلاح والذخائر إلى النظام السوري قبل شهر، تطوّعت إيران للقيام بهذه المهمّة ولم تفتح أجواءها فقط بل ضمنت أيضا أن تقوم الحكومة العراقية بفعل نفس الأمر. قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني لم يخرق العقوبات الدولية المفروضة عليه ويسافر إلى موسكو من أجل نزهة، وإنما من أجل التنسيق للقيام بعمل عسكري. فبينما كانت روسيا تحشد الطائرات وأنظمة الدفاع الصاروخي والسفن البحرية، كانت إيران تحشد الميليشيات ورجال الحرس الثوري في مشهد تكاملي تام بين البلدين. ولأن كل هذا العمل لا يمكن أن يتم بالشكل الصحيح من دون العراق، تم تشكيل غرفة العمل المشتركة.
هل يوحي لك هذا المشهد بما تقوله الأسطورة أعلاه؟ بالطبع لا. بل على العكس هذا المشهد يعزز من موقع ودور إيران في المعادلة ويخفف عنها عبء تحمّلها الملف السوري لوحدها ويسد الثغرات والنواقص ونقاط ضعفها هناك.
3) التدخل الروسي جاء رغما عن الإدارة الأميركية ودون علمها
غير صحيح. التدخل الروسي في سوريا ليس جديدا أو طارئا. الحشد العسكري الأخير لموسكو بالتحديد في سوريا استغرق التحضير له عدّة أشهر. المصادر المفتوحة تشير إلى أن موسكو سرّعت من هذه التعزيزات منذ يوليو الماضي على الأقل، أي منذ ثلاثة أشهر. وفي الوقت الذي كانت فيه الولايات المتّحدة تنفي علمها بتفاصيل هذا الحشد وهدفه النهائي، كانت بعض البرامج المجانية على الهواتف النقالة تنقل تفاصيل الرحلات التي تقوم بها طائرات الشحن العملاقة الروسية المحمّلة بالأسلحة والعتاد وأماكن إقلاعها والمسار الذي تسلكه وأماكن هبوطها في سوريا.
أكثر من ذلك، إدارة أوباما منذ أكثر من ستة أشهر، تحث في الاجتماعات الدولية خلف الأبواب المغلقة على أن يكون لروسيا دور أساسي في سوريا، وعلى أن يتم ضمان مصالحها هناك، (دوافع وأهداف وتوقعات مثل هذا الطرح من الممكن شرحها في مقال منفصل لاحقا). الولايات المتحدة رغم تراجع موقعها ودورها على المستوى الدولي خلال العقد الماضي، إلا أنها لا تزال أقوى دولة في العالم وتمتلك القدرة على تغيير المعطيات لو أرادت ذلك، لكن إدارة أوباما حريصة جدا على أن تقوم روسيا بهذا الدور الذي تقوم به ولكن ربما ليس بهذا لحجم وليس من أجل أهداف واسعة خارج الإطار الذي تريد الاتفاق عليه مع روسيا.