خلال فترة حكم معمر القذافي، التي استمرت 42 عاما، سُجِنَ إسلاميو ليبيا، وأُجبِروا على العمل تحت الأرض، أو الفرار إلى المنفى، لكنهم سرعان ما عاودوا الظهور بعد القبض على القذافي في أكتوبر 2011.
وهم الآن يمثلون طيفًا أيديولوجيًا، يشمل: (1) المعتدلين الذين يتبنون الديمقراطية (2) والمسلحين برؤيتهم العالمية المرتبطين بالقاعدة.
ويتشكل هذا الفصيل من أحزاب سياسية، يمثلها إلى حدٍّ كبير الإخوان المسلمون والجماعات السلفية الصغيرة، إلى جانب مليشيات. ورغم أن المليشيات الإسلامية ليست كلها مرتبطة بأحزاب سياسية، فإن الجماعات الرئيسية المقاتلة لديها ارتباطات سياسية.
بحلول عام 2015، أسهم الطيف الإسلامي الواسع في تغيير المشهد السياسي الليبي؛ حيث همَّشَت المليشيات الإسلامية تقريبًا الإسلاميين المعتدلين، وأجبرت الحكومة العلمانية على الفرار من العاصمة. ونتيجة للاشتباكات المتصاعدة بين الإسلاميين والمليشيات العلمانية؛ تشظَّى النظام السياسي الليبي- الهش أصلا- إلى حكومتين متنافستين.
هذا التدهور الليبي السريع لافتٌ للنظر؛ لأن ليبيا كانت هي الوحيدة من بين الدول العربية الـ22 التي تمتلك أصولا-عدد صغير من السكان، وموارد نفطية هائلة- تكفي لتحمل أعباء إعادة الإعمار والتحول السياسي، بل كانت قادرة أيضًا على أن تصبح لاعبا اقتصاديا رئيسيًا في شمال أفريقيا وجنوب أوروبا.
لكن انطلاقًا من عام 2004، شهدت ليبيا أسوأ موجة عنف منذ انتفاضات 2011؛ قادت البلاد إلى شفا حربٍ أهلية.. واليوم وصلت الصراعات ذروتها بين الفصائل الإسلامية كما بين الأحزاب العلمانية والإسلامية.
الأحزاب السياسية
أكبر حزب إسلامي في ليبيا هو جماعة الإخوان المسلمين، التي عقدت أولى اجتماعاتها في بنغازي بعد أسابيع فقط من القبض على القذافي، وفي مارس 2012 أسست حزب العدالة والبناء، بقيادة محمد صوان، لخوض الانتخابات.
سرعان ما أسس الإسلاميون الآخرون -لا سيما السلفيون- حفنة أحزابٍ أصغر؛ كان أبرزها: حزب الوطن بقيادة عبدالكريم بلحاج، الزعيم السابق للجماعة الإسلامية المقاتلة، والذي سُجِن في عهد القذافي.
خاضت ليبيا جولتين انتخابيتين في 2012 و2014؛ شاركت الأحزاب الإسلامية فيهما، وفي عام 2012، فاز تحالف القوى الوطنية، وهو ائتلاف فضفاض مكون من المجموعات العلمانية والمستقلة، بـ 64 مقعدًا ليصبح الكتلة الأكبر. وحاز حزب العدالة والبناء والتابع للإخوان على 34 مقعدًا، في حين حصدت الأحزاب السلفية 27 مقعدًا أخرى، ليصبح المجموع 61 مقعدًا للإسلاميين.
ترشحت الكتل الرئيسية -تحالف القوى الوطني والإخوان المسلمون والسلفيون- على القوائم الحزبية والمستقلة (في انتخابات 2012 خُصِّصَ 80 مقعدا للأحزاب، والـ 120 المتبقية للمستقلين)، وتمخَّضَت النتائج عن:
– تحالف القوى الوطنية: 64 مقعدًا؛ من بينها 39 مقعدًا حزبيًا، و25 مستقلا.
– حزب العدالة والبناء التابع للإخوان: 34 مقعدًا، من بينها 17 مقعدًا حزبيًا، و17 مستقلا.
– السلفيون: 27 مقعدًا، من بينها 4 مقاعد حزبية، و23 مقعدًا مستقلًا.
– الأحزاب الوطنية الأصغر، وجماعات المصالح المحلية، وبقية المستقلين: 75 مقعدًا، من بينها 20 مقعدًا حزبيًا، و55 مستقلا.
فور انعقاد البرلمان، عززت جماعة الإخوان نفوذها عبر تحالفات استراتيجية مع المستقلين، أثبتت أنها أكثر تماسكًا من التحالف العلماني.. وفي نهاية المطاف أصبحت أقوى كتلة في البرلمان.
في مايو 2013، دفعت جماعة الإخوان المسلمين -بدعمٍ من السلفيين- بقانون العزل المثير للجدل، الذي حظر على مسئولي عهد القذافي من المشاركة السياسية لمدة 10 سنوات، كما أضعف القانونُ تحالفَ القوى الوطنية؛ لأنه أجبر العديد من أعضائه على الاستقالة.
لكن الدعم الشعبي للجماعة تراجع منذ عام 2012: حمَّل كثير من الليبيين الإخوان مسؤولية المماحكات الحزبية التي أدت إلى تعثُّر إعادة الإعمار، واتهم الساسة العلمانيون الإخوان وتابعيها بالتورط مع الجماعات المتطرفة، في حين ادعى السلفيون أن الإخوان يمثلون خطرًا على مبادئ الشريعة الإسلامية.
ونتيجة لذلك، كانت الجماعة أسوأ حظًا في انتخابات 2014 البرلمانية، مقارنة بتلك التي أجريت عام 2012؛ إذ لم تحصد سوى 25 مقعدًا من أصل 200. وبالمثل، فازت الأحزاب السلفية أيضًا بعدد قليل من المقاعد.
هذه الصراعات المتزايدة قَوَّضت العملية السياسية، ومشاركة الناخبين، الذين انخفضت نسبة تسجيلهم إلى النصف تقريبًا: إذ سجَّل قرابة 15 مليونًا للتصويت في انتخابات عام 2014، مقارنة بـ2.8 مليونًا في 2012، لكن لم يشارك في التصويت فعليا سوى 630 ألفًا، وأُغلِقَت مراكز الاقتراع في درنة والكفرة وسبها؛ بسبب اندلاع العنف. أصيب الليبيون بخيبة أمل متزايدة تحت وطأة الجمود السياسي في البرلمان والوضع الأمني المتدهور، ونتيجة للاضطرابات السياسية؛ تعاقب على ليبيا 7 رؤساء حكومات في غضون السنوات الثلاثة الأولى بعد الإطاحة بالقذافي.
صعود المليشيات
تنامي قوة المليشيات الليبية هو أحد الأسباب الرئيسية وراء تعثر التحول السياسي، في البدء تشكلت المليشيات لمحاربة جيش القذافي خلال انتفاضة عام 2011 التي استمرت ثمانية أشهر، كان بعضها إسلاميًا، وبعضها علمانيا، وبعد الإطاحة به، اختارت الحكومة الانتقالية- التي سبقت المؤتمر الوطني العام- المليشيات لملء الفراغ الأمني.
أدت هذه السياسة إلى تضخم عدد مقاتلي المليشيات سريعًا من 120 ألفًا، إلى أكثر من 200 ألف؛ وهو ما يوازي 11% تقريبا من إجمالي تعداد القوة العاملة في البلاد، وسرعان ما بدأت المليشيات المختلفة في تحدي الدولة الليبية الوليدة.
ففي عام 2014، تصاعدت المواجهة بين المليشيات الإسلامية وغير الإسلامية في غرب البلاد وشرقها، فكما أن طرابلس في الغرب وبنغازي في الشرق غريمين تاريخيين، فكذا العاصمتين طرابلس وبرقة.
وفي الشرق، زادت المليشيات الإسلامية- التي ينتمي بعضها للقاعدة، وبعضها مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين- أعدادها وعززت تسليحها منذ بدء انتفاضة عام 2011، وفي مايو 2014، واجهت تحديًا من مليشيا علمانية يقودها الجنرال خليفة حفتر، الضابط المنشق عن الجيش الليبي.
لمحاربة هذه القوات العلمانية، شكَّلت الجماعات الإسلامية المتشددة، ومن بينها أنصار الشريعة، مجلس شورى ثوار بنغازي، وفي يوليو 2014، سيطرت على بنغازي، وأعلنتها خلافة إسلامية، في المقابل واصل الجنرال حفتر نزاعه ضد بنغازي، وشن هجوما جديدا في أكتوبر.
في عام 2014، أدى ظهور تنظيم الدولة إلى مزيد من تعقيد الطيف المليشيويّ، تشكلت الباكورة من ملقاتلين عائدين من سوريا، وكانوا أكثر نشاطا في درنة، المدينة الشرقية التي يسكنها 100 ألف شخص، ولها تاريخ جهادي يعود إلى الثمانينيات؛ إذ سبق لرجال درنة القتال في أفغانستان ضد السوفييت خلال تلك الحقبة، وفي العراق ضد القوات الأمريكية في أوائل الألفية الحالية، وفي سوريا ضد حكومة دمشق في السنوات الأخيرة.
شكل هؤلاء مجلس شورى شباب الإسلام في أبريل 2014، وأعلنوا رسميًا ولاءهم لتنظيم الدولة في أكتوبر. وفي نوفمبر، سيطر التنظيم على المدينة بشكل كامل، ورغم أن نشاطه في ليبيا غير واضح، إلا أن التنظيم كان نشطا أوائل 2015 في طرابلس وبنغازي وسرت وأجزاء من الجنوب، وتم ربطه بالهجوم على فندق كورنثيا (الذي يعتبر مقراً لبعثات دبلوماسية و شركات أجنبية) في طرابلس خلال مطلع العام الحالي.
في الغرب، كانت نقطة التحول الرئيسية هي انتخابات يونيو 2014. وفي أغسطس طرد تحالف من المليشيات الإسلامية في مصراته، معروف باسم فجر ليبيا، رئيس وزراء الحكومة المنتخبة عبد الله الثني خارج طرابلس. ولاحقًا دعمت فجر ليبيا تشكيل حكومة منافِسة في طرابلس بقيادة عمر الحاسي، وهو عضو سابق في الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، شارك فيها إسلاميون آخرون كانوا أعضاء في البرلمان السابق.
أما الحكومة المنتخبة فاضطرت إلى الفرار إلى طبرق النائية على الساحل الشرقي، وفي نوفمبر أعلنت المحكمة العليا في ليبيا- لا تزال منعقدة في طرابلس- عدم دستورية برلمان طبرق، وبحلول أوائل 2015، كانت الحكومة الليبية المنتخبة ديمقراطيًا تمتلك سلطات متواضعة، وتعتمد على المليشيات العلمانية التي تحظى بموارد أقل من الإسلاميين والقوة الجوية الخارجية.
ثم تدخلت دول الشرق الأوسط فزادت الوضع تعقيدًا؛ إذ دعمت تركيا وقطر حكومة الإسلاميين في طرابلس، وأيدت مصر والإمارات الحكومة المنتخبة في طبرق، وفي 2014، زعمت التقارير أن البلدين الأخيرتين شنتا غارات جوية على المليشيات الإسلامية في طرابلس، وإن رفض قادة البلدين تأكيد هذه المزاعم.
انقسامات بين الإسلاميين في ليبيا
غالبا ما تكون الأحزاب والمليشيات الإسلامية معادية لبعضها كما لغيرها من الإسلاميين، على سبيل المثال، كان فرع الإخوان في ليبيا يعتبر أكثر اعتدالا واستعدادًا للتعايش بسلمية مع الأحزاب العلمانية في الحكومة الجديدة، في حين أن الإسلاميين المتشددين- وخصوصا السلفيين- غالبا ما يتهمون الإخوان بتقديم تنازلات.
ومن بين الحوادث التي تعكس التوترات الداخلية بين الإسلاميين:
في غرب ليبيا، يُهاجِم السلفيون- خاصة التابعين للداعية السعودي ربيع المدخلي- مساجد الصوفية وأضرحتهم ومقابرهم، منذ عام 2012.
وفي شرق ليبيا، فَجَّرَت المليشيات الإسلامية المتشددة سيارات ومكاتب السياسيين التابعين لجامعة الإخوان المسلمين، وبينما كانت التفجيرات والاغتيالات التي يقوم بها الإسلاميون المتشددون، مثل أنصار الشريعة، منتشرة في الشرق منذ عام 2011، إلا أن أهدافها توسعت مع مرور الوقت، ولم تعد تقتصر على مسئولي عهد القذافي بل تعدتهم لتشمل الإسلاميين المعتدلين.
وفي طرابلس، اعتبر ائتلافُ فجر ليبيا أنصارَ الشريعة؛ جماعةً إرهابية في أغسطس 2014، في الأسبوع ذاته، أصدرت جماعة أنصار الشريعة بيانا يدين جماعة الإخوان المسلمين ودعمها للديمقراطية.
وفي درنة، بدأ صراع مفتوح بين مجلس شورى شباب الإسلام، وكتيبة شهداء أبو سالم- رغم أن كليهما فصيل متطرف تجمعهما الأهداف ذاتها- للسيطرة على المدينة في سبتمبر 2014.
كما أسهمت العشائر والقبائل المتنوعة والانتماءات الجغرافية المختلفة داخل المجتمع الليبي في تعقيد الفجوة بين الإسلاميين وغير الإسلاميين، ففي منتصف 2014، نسقت المليشات الإسلامية في مصراتة هجماتها على الحكومة المركزية في طرابلس مع المقاتلين العلمانيين والبربر الأمازيغ.
المليشيات.. من هم؟
الإسلاميون في ليبيا عبارة عن طيف أيديولوجيّ، يتنوع بين المليشيات المؤيدة للديمقراطية التي لها علاقة بسياسيين أو أحزاب، وتلك المرتبطة بالقاعدة.
فيما يلي وصف لأبرز المليشيات الإسلامية العاملة في ليبيا بحلول أوائل عام 2015، وفق التقسيم الجغرافي:
* مليشيات الغرب
مليشيات مصراته:
أصبحت مدينة مصراتة في الغرب معقلا للمليشيات الإسلامية إبان انتفاضة 2011، وتمخضت في نهاية المطاف عن أكثر من 200 مليشيا تضم إجمالي 40 ألف مقاتل، وتتلقى مليشيات مصراتة تمويلا من المؤتمر الوطني العام، وبعضها مرتبط بسياسيي الإخوان.
يشكل لواء مصراته جزءًا من ائتلاف فجر ليبيا، الذي استولى على طرابلس في أغسطس، ويدعم التحالفُ البرلمانَ المنافِس بقيادة رئيس الوزراء عمر الحابسي، وفي أغسطس، أصدر التحالف بيانا يعرب عن دعم الديمقراطية وينأى بنفسه عن الجماعات المتطرفة مثل أنصار الشريعة.
غرفة عمليات ثوار ليبيا:
هي مظلة للمليشيات الإسلامية التي أنشأها ومولها المؤتمر الوطني العام في 2013؛ لتوفير الأمن في طرابلس وبنغازي. يرأسها إسلامِيَّيْن، هما: شعبان هدية، وعادل الغرياني، وتدعم المجموعة المصالح الإسلاموية في الجمعية الوطنية، وسبق أن اختطفت لفترة وجيزة رئيس الوزراء السابق علي زيدان في أكتوبر 2013.
في يوليو 2014، تعهدت المجموعة بحمل السلاح ضد قوات الجنرال حفتر في بنغازي، وفي أغسطس 2014، قاتلت أيضًا في ائتلاف فجر ليبيا، إلى جانب مليشيات مصراتة، إبان الهجوم على طرابلس.
* مليشيات الشرق
كتائب شهداء 17 فبراير:
أحد أكبر وأفضل المليشيات المسلحة في شرق ليبيا، شكلها أعضاء من جماعة الإخوان المسلمين خلال انتفاضة 2011. قامت هذه الكتائب- التي تلقت تمويلا من وزارة الدفاع الليبية- بمهام إنفاذ القانون في جنوب ليبيا وشرقها، يقع مقرها في بنغازي، وخاضت قتالا ضد قوات حفتر طوال عام 2014، وتشير التقارير إلى أن عدة مئات من مقاتليها تركوها، للانضمام إلى أنصار الشريعة في عام 2012، لكن المجموعتين تحافظان على علاقات وثيقة.
أنصار الشريعة:
هي مجموعة متشددة، تأسست في يونيو 2012 من قبل مسلحين شاركوا في القتال أثناء انتفاضة 2011، ويشتبه على نطاق واسع في وجود صلات بينها وبين تنظيم القاعدة، لكن قادتها أنكروا هذه المزاعم.
تنشط هذه المجموعة، بقيادة محمد الزهاوي، في بنغازي ودرنة وسرت، وشهدت نموًا في العدد والعتاد منذ تأسيسها، وتسعى لإقامة حكم إسلامي صارم في ليبيا، وتم ربطها بالهجوم على البعثة الأمريكية في بنغازي، ومقتل السفير كريستوفر ستيفنز في 11 سبتمبر 2012، كما أنها تقاتل ضد قوات الجنرال حفتر منذ مايو 2014.
مجلس شورى شباب الإسلام:
شَكَّلت مجموعة من مقاتلي تنظيم الدولة هذا المجلس في أبريل 2014، بعد عودتهم من سوريا إلى درنة، وأعلنت المجموعة ولاءها لتنظيم الدولة في أكتوبر 2014، ومنذ ذلك الحين وهي تحشد الدعم للتنظيم في أوساط الكتائب الإسلامية الأخرى في درنة، ومنها أنصار الشريعة، كما قاتلت هذه المجموعة كتيبة شهداء أبو سالم، وأفادت التقارير بأنها بسطت كامل سيطرتها على المدينة الشرقية في نوفمبر 2014.
كتيبة شهداء أبو سالم
شكلها إسلاميون كانوا معتقلين في سجن أبو سالم إبان عهد القذافي، وكانت أقوى مليشيا في درنة حتى تشكيل المجموعة التابعة لتنظيم الدولة في 2014، وتدعو الكتيبة إلى تطبيق صارم للشريعة، لكنها رفضت الانضمام إلى تنظيم الدولة، وتدعو بدلا من ذلك إلى القومية الليبية، وقاتلت المليشيات التابعة لتنظيم الدولة من أجل السيطرة على درنة.