النصر للشعب، هزيمة ثقيلة صنعها العسكريون برعونتهم، وقلة خبرتهم، واستهتارهم، لتبدو مصر للمرة الأولى أصغر مما يحتمل أهلها، حتى الاحتلال لأكثر من 70 عاما لم يصنع بالمصريين ما صنعته هزيمة 67، ولم يترك في ذاكرتهم الجمعية ما تركته إلى الآن من جرح غائر، انتصار محتمل جعله “ناصر” ورفاقه انكسارا تاريخيا، وهزيمة واضحة جعلها “هيكل” مجرد نكسة، تفريعة من انتصارات وأمجاد، الباقي تكفلت به “أم كلثوم” وبقية الجوقة.
رفض المصريون، قاوموا بإرادتهم، غضبهم، مظاهرات أبنائهم في الجامعة، في الشارع، عبد الناصر مجبرا يبدأ في تحويل “خرابة” الجيش، إلى مؤسسة حقيقية، تطهير، حقيقي هذه المرة، إعادة بناء، حقيقية هذه المرة، لعلها الأولى، سنوات عبد الناصر الثلاث الأخيرة، التي يشتغل فيها الجيش عند الشعب لتصبح دولة لها جيش، لا جيشا له دولة!!
جيش مصر، تحت قيادة شعب مصر، تحت أقدامهم، ورهن أحلامهم، هنا القاهرة، سنوات ما بعد الهزيمة، تاريخ سطره المصريون بأيديهم، دون وصاية من أحد، لا ناصر، ولا السادات، ولا أيا من أشباه الرجال، الصورة لنا وحدنا، كنا فكانت أكتوبر، شئنا فشاءت الأقدار، أذنا فأذن الله بالنصر.
كانت القوات المسلحة قد فقدت كل شرعية للاستمرار في حكم مصر، وكان الناس يوشكون أن ينفضوا أيديهم منها، حرص السادات في خطاب النصر بمجلس الأمة أن يعلي من ذكر قواته، أن يضغط على حروف كلماته التي صاغها “هيكل” بمهارة الحواة وهو يخبرنا أن هذا الانتصار قد تحقق في “ست” ساعات، وهو الوقت نفسه الذي استغرقته قوات العدو في إسقاطنا في 67، وكأننا نرد الضربة على طريقتهم، ونخبر العالم، بالأحرى نخبر المصريين ونسترضيهم أمام العالم، ها نحن قد فعلناها، رددنا الصفعة بمثيلتها، فاهدأوا، وجددوا الثقة!!
إلى الآن يتخذ “العسكر” من أكتوبر شرعية بديلة، أو لنقل شرعية مجددة لشرعية يوليو التي سقطت في يونيو 67 وانتهت إلى الأبد في يناير 2011، إلا أن البعض يصر على عدم فصل الأجهزة عن المريض بعد تحقق الموت إكلينيكيا ظنا منه أن مجرد استمرار النبض يعني استمرار الحياة!!
خطوة إلى الخلف، ما بين عبور أكتوبر، وعبور يناير، لندرك كم كان الانتصار عظيما، ذلك الذي حققه المصريون، بسواعد أبنائهم، أبناء المدن والريف، والصعيد، عيالنا، عيال الناس، وكم كان رخيصا عند عسكر كامب ديفيد الذين ذهبوا ليقدموه على موائد التفاوض ثمنا لاستمرارهم على كراسيهم، وضمانة لئلا يهدد الوجود الصهيوني هذا الاستمرار، كم كنا عظاما يوم السادس من أكتوبر عام 73، وكم كانوا من الوضاعة بما لا تستوعبه مفردات اللغة يوم السادس والعشرين من مارس عام 79، يوم نثروا دماءنا “نقوطا” في عرس الانعزال التاريخي عن محيطنا العربي، لا تجد الخيانة تعريفا في تاريخها أكثر التصاقا بما فعله السادات في ذلك اليوم المشؤوم.
اليوم نتذكر عبد العاطي صائد الدبابات، فيما يتذكر غيرنا عبد العاطي صائد الفيروسات بـ”صوابع” الكفتة، اليوم نتذكر الفريق سعد الدين الشاذلي، البطل الحقيقي، فيما يصر البعض أن يعيدنا إلى مربع مبارك، اليوم نتذكر بليغ حمدي وهو يغني للمصريين على ربابتهم، فيما يغرقوننا بمخدرات مصطفى كامل “قشطة يابا” والبرلمانية سما المصري، اليوم يومنا، نحن أبناء من صنعوا هذا المنجز، لا يوم من أضاعوه، شر خلف لشر سلف.
لقد انتهت هذه الدولة، ما نسمعه الآن من دوي رصاصاتها هو صوت صرير عجلات القطار، قصوره الذاتي بعد الفرملة، لا شيء ينتظر العساكر في مستقبل هذه البلاد سوى عودتهم إلى الثكنات، يومها، ويومها فقط، يمكننا أن نقول إن لدينا دولة تتجه إلى عبور آخر، لمستقبل جديد، وقبل هذا اليوم القريب، نحن هنا لنحاول، كما حاول من قبلنا، حتى وصلوا إلى أكتوبر، الفارق: هو أن التجربة منحتنا في مخاضاتها المريرة ما يحول دون أن تتحول يناير إلى كامب ديفيد جديدة، من “الدفرسوار” إلى “لم يجد من يحنو عليه”، تعلمنا.. غدنا اليوم.