كل هذه الجيوش من المطربين والمطربات والاستعراضيين والاستعراضيات، ممن كان يحرص عبد الفتاح السيسي على دعوتهم في مناسباتٍ عسكرية، حين كان وزيراً للدفاع يتأهب للانقلاب، عقمت عن أن تنتج عملاً فنياً في ذكرى حرب أكتوبر، حتى تمنحه الإمارات “أوبريت” يليق بغزوة بدر، أكثر مما يصلح لمعركة أكتوبر؟
قبل انقلابه بأشهر معدودات، كان السيسي قد دعا فيالق المطربات والمطربين والمؤلفين والملحنين لحضور مشروع “تفتيش حرب” للقوات المسلحة. كان وزيراً للدفاع، وكانت الصور تنطق بملهاة حقيقية، إذ بدا الضيوف وكأنهم في رحلة إلى حديقة مفتوحة، أو متحف، يلتقطون الصور التذكارية مع الضباط والجنود، فوق ظهور الدبابات والقطع الحربية، ويتبادلون النكات والقفشات، بشكل خادش لهيبة الجندية.
لذا، تأتي الدهشة من أن أحداً من هؤلاء لم يفكر في صناعة عمل فني، يتناول ذكرى الانتصار، أو ربما لم يتذكّر أصلاً.
هل بلغ بهم فقر الخيال، وبلادة الشعور بالمناسبات الوطنية، أن أصبحوا يستوردون الأناشيد والأغنيات، كما استوردوا الانقلاب، جاهزاً ومغلفاً، من الخارج قبل أكثر من عامين؟
من “بشرة خير” التي قدمها مطرب إماراتي خصيصاً لمناسبة جلوس السيسي على كرسي حكم مصنوعٍ من الدماء والأشلاء، إلى احتفالية ذكرى حرب أكتوبر، بأوبريت لا يمت للمناسبة بصلة، يحرص السيسي على إظهار أن مصر التي يحكمها هي صنيعة الهبات والمنح والمساعدات الإماراتية، من الأرز إلى الغناء، على نحو يصيب الجميع بالدهشة من أن “هوليوود الشرق” وخزّان فنونه استبد بها القحط، حتى صارت غير قادرة، أو بالأحرى غير راغبة في الاعتماد على نفسها، حتى وهي تغني لعيد وطني.
صادروا “أكتوبر” أيضاً لحساب سلطة الانقلاب، فأخرجوه من كونه مناسبة لتذكّر الأعداء الحقيقيين للشعب المصري، إلى حفلة، أو سهرة، مبتذلة، لتجديد الولاء والانتماء لمن ساعدوا في الإجهاز على عبور المصريين إلى التغيير والديمقراطية في ملحمة الشعب، يناير/ كانون الثاني 2011، وصار الحدث مناسبة لابتزاز الجماهير، بأن كل من يعارض حكم العسكر هو من أعداء الوطن الذين يعملون على هدم الجيش.
وفي ذلك، تنفجر مواسير الخبراء الاستراتيجيين والإعلاميين الأمنيين، تعلن قطع رقاب كل من يهتف “يسقط حكم العسكر”، وتتفاقم حالة قتل السياسة ومطاردة الحلم بالديمقراطية، وتخوين كل من يطمح إلى دولة مدنية وتجريمه، تعرف الحريات الاجتماعية والسياسية، وتحترم حقوق البشر في الاختلاف.
في العام الماضي، كانت هناك حالة غضب وتململ من الهتاف بسقوط حكم العسكر، أما هذا العام، فقد وصلنا إلى مرحلة استباحة دماء الهاتفين، والتحريض على قتلهم علناً.
وقد سجلت في هذه المساحة، قبل عام، استغرابي من هؤلاء الذين يغضبهم هتاف “يسقط حكم العسكر”، على الرغم من أن هذا الهتاف لو أبحرت في وجدان الذين يردّدونه ستجدهم الأشد حباً للجيش، والأكثر حرصاً على حماية الجندية من عبث جنرالات السلطة الذين ورّطوا الجيش في معارك مع الشعب.
إن أجيالاً متعددة، كل خبرتها بالجيش أنه القوة الباطشة التي تطارد المتظاهرين (أعداء الوطن) في الشوارع، أو توزع لحوم السيسي وبقولياته وزيوته على الناس، أمام كاميرات التلفزيون، أو تنافس القطاعين الخاص والعام في الصفقات والمقاولات. ذلك كله لأن العسكر يحكم، وبالتالي، هذه هي صورة الجيش في أذهان الناس الآن.
وشتان بين هذه الصورة الكارثية وتلك الصورة الجميلة عن الجيش في تلك العقود التي كان فيها العدو معروفاً ومحفوظاً في وجدان المصريين.
لقد تربينا على أن الجندية مجالها القمم العالية، وليس السفوح المنخفضة، مكانها البراح، وليس الأزقة والحواري الضيقة. ومن هنا، كانت فترة التشظي النفسي والحزن العميق هي تلك التي أنزلوا فيها الجيش إلى قاع مستنقعات السياسة بعد الثورة، الأمر الذي أوجع الجميع، وخدش تلك الصورة النقية عن “الجند”.
ولأننا نحب الجيش، ونخشى عليه من الإسفاف، نجدد الهتاف من القلب لمناسبة ذكرى أكتوبر “يسقط حكم العسكر”.