لا يمكن للأنظمة السلطوية الاستمرار في السلطة، من دون تنويع أدوات البقاء والمناورة.
وتتمثل أهم هذه الأدوات في استخدام القمع والإكراه ضد المعارضين والرافضين للسلطوية من جهة، وصناعة الولاء وشراء المؤيدين والمنتفعين من جهة أخرى.
فالإكراه والولاء هما بمثابة جناحي السلطوية والاستبداد اللذين يمكن من خلالهما إقصاء المعارضة السياسية، ووقف تهديدها النظام، في مقابل تقوية العلاقة مع الموالين، وضمان دعمهم النظام وتأييدهم له.
ويبدو هذا الأمر واضحًا في مصر؛ حيث يمارس النظام الحالي كل أنواع الإكراه والعنف ضد المخالفين والمعارضين من الأطراف السياسية كافة، إسلاميين وغير إسلاميين، في الوقت الذي ينفق فيه بسخاءٍ، يصل إلى حد السفه والإسراف، على قطاعات أخرى كالجيش والقضاء والشرطة والإعلام. لذا، ليس مستغربًا أنه، في الوقت الذي يتم فيه التخلص من المعارضين بكل الطرق، سواءً في المعتقلات والسجون أو بالتصفية الجسدية في المنازل والشوارع، فإنه يتم إغداق الأموال والنفقات على المؤسسات الداعمة للنظام والمؤيدة له. وتتكاثر الأخبار المتداولة حول رفع مرتبات وحوافز ومكافآت رجال الشرطة والقضاة والجنرالات الذين يحصلون على امتيازات اقتصادية واجتماعية خرافية. وفي وقتٍ تئن فيه ميزانية الدولة بديْن داخلي، وصل لأول مرة في تاريخ مصر الحديث، إلى تريليوني جنيه، يجري توزيع العطايا والأموال على المحاسيب وداعمي النظام.
لذا، من الطريف أن يتحدث النظام عن محاربته الفساد، بينما هو غارق فيه لأذنيه، ويعمل على مأسسته وتجذير ثقافته عبر سياسته في صناعة الموالين. ومن المدهش أن يحتفل بعضهم بإقالة الحكومة، أو تعنيف هذا المسؤول أو ذاك، تحت غطاء محاربة الفساد، بينما رأس السلطة نفسها ينفق من دون حساب، ولا يدري أحد أين ذهبت مليارات الدولارات التي حصل عليها من داعميه الإقليميين، ولا كيف تم صرف مليارات الجنيهات التي دفعها المصريون، للمساهمة في حفر القناة الجديدة المزعومة التي أصبحت أكبر “كذبة” سياسية في التاريخ المعاصر.
لا يقع النظام الحالي في مصر تحت أي نوع من الرقابة، رسمية أو شعبية، فالمسألة غير مطروحة للنقاش أصلًا، فالنظام وزبائنه وموالوه يرفعون شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، وهي معركة ضد كل ما هو سياسي حقيقي، وضد كل أشكال المعارضة، ولو مستترة. ولا يوجد برلمان يمكنه محاسبة الرئيس أو المسؤولين، أو استجوابهم عن فسادهم وأموالهم، ولا توجد منظمات أهلية، أو مجتمع مدني يمكنه أن يطالب بمناقشة الميزانية، أو تقصي وجوه إنفاقها. باختصار، لا توجد سياسة في مصر في ظل عملية القتل البطئ للبدائل وللخيارات السياسية، ضمن عملية “تيئيس الشعب” ووقف “تسييسه” وإسكاته.
أنظر إلى تشكيلة الحكومة الجديدة التي تم إعلانها، أخيرًا، لكي ترى حجم اللامبالاة وعدم الاكتراث بأية رقابة شعبية، أو محاسبة مجتمعية. فرئيس الحكومة، حسب تقارير صحفية كثيرة، يأتي من قطاع النفظ والغاز، وهو أكثر القطاعات فسادًا ومحسوبية وشراء للولاءات في مصر. وكان الرجل من أشد المدافعين عن نظام حسني مبارك وسياسته، وكان لشهادته القضائية دور مهم في عدم إدانة وزير البترول السابق، سامح فهمي، المعروف بفساده الشديد. بل دافع عن صفقة بيع الغاز المصري لإسرائيل في العقد الماضي، والتي خسرت بسببها مصر نحو 38 مليار دولار، فرق أسعار، ونتيجة للفساد والعمولات التي حصل عليها مهندسو الصفقة، وفي مقدمتهم رجل الأعمال الهارب حسين سالم. في الوقت الذي تضم فيه الحكومة وزراء ومسؤولين، عمل بعضهم ضمن نظام مبارك، وكان قريبًا لدوائره العليا، مثل وزير التنمية المحلية، أحمد زكي بدر، نجل أسوأ وزير داخلية في عهد مبارك، وهو زكي بدر. في حين يأتي وزراء آخرون من خلفيات اقتصادية نيوليبرالية واضحة، لا تكترث كثيراً لحاجات المواطنين، بقدر اهتمامها بمصالح رجال الأعمال والمستثمرين. ناهيك عن وزراء آخرين محدودي الكفاءة والقدرات، مثل وزيري الثقافة والتعليم.
نجح النظام الحالي، ولو مؤقتًا، في قمع المعارضة، وتأميم المجال العام، وكبت الحريات، وإغلاق منافذ التعبير السلمي، من خلال أداة القمع والإكراه. كما نجح في شراء ولاء قطاعات أخرى وتأييدها، عبر تقريبهم والدفع لهم بسخاء. معضلة هذا النظام تكمن في قدرته على الاستمرار في سياسة شراء الموالين لضمان دعمهم، وذلك ليس فقط لمحدودية موارده المالية والاقتصادية، والتي سوف تزداد انكشافًا بمرور الوقت، وإنما أيضا لممارسة هؤلاء نوعًا من الابتزاز والضغط على النظام، لزيادة حصصهم ومواردهم. خذ مثلًا تظاهرات “أمناء الشرطة”، أحد أهم أذرع النظام وأدواته القمعية، من أجل زيادة دخولهم وحوافزهم المالية، أسوة برؤسائهم من الضباط الذين حصلوا على امتيازات خرافية، طوال العامين الماضيين. وخذ تظاهرات موظفي الدولة، خصوصًا الضرائب العقارية، الذين يرفضون تمرير قانون “الخدمة المدنية”، كونه قد يؤثر على ترقياتهم، وبالتالي دخولهم ومرتباتهم.
باختصار، إذا كان النظام الحالي قد نجح في إسكات المعارضين عبر القمع والإكراه، فإنه لن ينجح في وقف مطالب وضغوط الموالين والمؤيدين الذين لن يتورعوا عن المطالبة بمزيد من الأموال والامتيازات. فعلاقتهم بالنظام لا تقوم على قناعة سياسية، بقدر ما هي نوع من التحالف المصلحي المحض الذي قد ينقضي، إذا توقفت الأموال والعطايا عن التدفق إلى جيوبهم.