لم يتطرق محمد حسنين هيكل، الأستاذ كما يطلق عليه حواريوه وشيعته، لم يتطرق من قريب، ولا من بعيد، طوال احتفالية أهله وعشيرته بعيد ميلاده الثالث والتسعين، إلى ما يدور في القدس المحتلة، من اعتداءات صهيونية على المقدسات، هي الأعنف، منذ نهاية الستينيات. ولم يلفت نظره، لا هو ولا ندماؤه، أن قصفًا إسرائيليًا يدور على غزة، وأن حربًا تشنها القوات المصرية، ضد الشعب الفلسطيني المحاصر، تشبهها الصحافة التي صنعها “الأستاذ” باعتبارها ملحمة، تشبه ملحمة تحطيم خط بارليف.
لم يلفت شيء من ذلك نظره، أو يسترعي انتباهه، ليكون موضوعًا للدردشة المستفيضة، عن الشؤون المصرية، والتي نشرتها صحيفة الشروق قبل يومين، فشغل الرجل الشاغل هو مستقبل الانقلاب الذي كان أحد مهندسيه، ومصير الجنرال الذي توهّم الأستاذ يومًا أنه قادر على إعادته إلى صباه الناصري، إن هو أسبغ عليه من ملامح عبدالناصر وخصاله.
يبدو الأستاذ في هذه الفضفضة أقرب إلى إعلان فشل قوانين الهندسة الوراثية في تخليق الزعامات السياسية، فالسيسي في نظره مصدوم، من دون أن يشرح ويقول إن الصدمة دائمًا ما تكون مصاحبة للصغار، حين يجدون أنفسهم في مقاعد الكبار، يرتدون جلبابهم الواسع الطويل، فيتعثرون في مشيهم، وتصعقهم صورتهم في المرآة.
يقول الرجل نصف الحقيقة، ويخفي الأهم، وهو أن “الوضع الراهن” الذي أصاب السيسي بالصدمة هو من صنع السيسي، كمؤسسة انقلابية لعب هيكل دور المفكر لها، ولم يكن وضعًا موروثًا، فعن أي صدمة يتحدث؟
غير أن أخطر ما احتوته “قعدة الأستاذ” تلك، النظرة البائسة للإعلام، وكأن الرجل لا يزال يجلس على مكتبه، وزيرًا للإعلام، الذي هو “الإرشاد” في النظم الشمولية، إذ يأتي بأغرب توصيف لحالة التخبط والهذيان والانحطاط المهني والأخلاقي التي يمر بها جل الإعلام المصري هذه الأيام، فيرد ذلك إلى أن الخطاب السياسي غائب، وبالتالي “هذا يؤثر سلبًا على المحتوى الإعلامي”، كما أجاب هيكل. والخلاصة، هنا، أنه لا يرى في الإعلام سوى مرآة للسلطة السياسية، أو بالأحرى، ماشطة لها، وكأن الخطاب السياسي/ الرسمي/ هو الذي يحدّد أجندة عمل الجهاز الإعلامي، ويضع له الخطوط التي يسير عليها، والمساحات التي يتحرك فيها، وهذا بالضبط تعريف الإعلام، كما كان لدى النازية والفاشية. لا اجتهاد، لا إبداع، لا تجاوز للأسقف المحددة، سلطويا، ولا خروج على الخطوط والأدوار المرسومة.
ذلك عينه ما يَهْرف به عبدالفتاح السيسي، منذ صعوده إلى سدّة الحكم، بحديثه المتكرر عن الجهد الذي بذلته مؤسسة الانقلاب في صناعة الأذرع الإعلامية وزراعتها، وإلحاحه على أنه ليس مسؤولًا وحده، بل الإعلام مسؤول معه، عن السيطرة على العقل العام وتوجيهه، حيث تريد السلطة، لنصل إلى هذه الوضعية التي باتت معها الشعوذة قمة الإبداع، والتخريف منتهى الحداثة، والكذب والتلفيق، معًا، منتهى المهارة والكفاءة، ومعاداة كل ما هو ثابت وأصيل من قيم، معيار الوطنية والانتماء.
كان هيكل أول من بشّر بالسيسي زعيمًا، وأخرج له من الصندوق أزياء ناصرية، وألبسه إياها، قبل أن “يعمّده” بوصفة زعيم الضرورة الجديد، فما الذي حدث، لكي يعبر عن كل هذا الفزع من المستقبل؟
ما الذي جرى أيضًا لكي تفقد “لميس” ميزتها الاحتكارية، وتعجز عن استضافة “الأستاذ” على شاشة رجل الأعمال المخلص للجنرال؟
في مثل هذه الأيام من العام الماضي، كان هيكل يحتفل، تلفزيونيًا، بعيد ميلاده من ناحية، وبعودته للاقتراب من الجنرال مجددًا من ناحية أخرى، ليقول مخاتلًا “أريد أن أقول لكِ شيئًا: من العيب من ناحية السن أن أقول إنني المستشار الأول للرئيس. ومن العيب، بالتجربة التاريخية، أن أقول ذلك، أنا لست رجل كل العصور، ثقافتي، حتى السياسية، لا تصلح لذلك، لأنها متولّدة بالمعارف والتجارب في زمن معيّن، ووجودي بالقرب منه ربما يكون مقلقًا لحلفاء في المنطقة، خصوصًا أن لديّ مواقف معيّنة معروفة”.
وفي الحوار نفسه، طلب هيكل لنفسه صفة “الكاردينال” تلميحًا، حين قال لتلك التي كانت تحتكره ما يلي “عندما انتخب البابا الجديد، المجمع المقدس، قام بشيء جديد، لم نأخذ بالنا منه، قبل صعود الدخان بألوانه، قالوا إن الزمن تغير، ومركز القرار أصبحت له أهمية فائقة لديهم، فلا بد من تقوية مركز صنع القرار، وهو مركز البابا، فعليه أن يقبل في مكتبه بثمانية كرادلة ليسوا مستشارين، لأن وجودهم مهمّ، فالبابا معصوم والفاتيكان ليست دولة تحارب، لكن الكرادلة والمجمع كله أجمع على أهمية الدور المعنوي، على الأقل في ظل التغيرات العالمية المتسارعة، وبالتالي، مركز البابا لا بد أن يكون مدعومًا بقوة فكرية وتجربة ومعرفة وقدرة على الحوار والمناقشة”.
هل عرفت، الآن، كيف تحول السيسي، في نظر هيكل، من “المعصوم” إلى “المصدوم”؟