مطار القاهرة عصر الأربعاء 17 يوليو 2013.
كنا في نهار رمضان، حين عبرت مكتب الجوازات، وتوجهت إلى المكان المخصص للانتظار قبل صعود الطائرة. كانت القاهرة خلفي في كامل حلتها الفاشية، مسافراً إلى الدوحة مدة أسبوع فقط، ضيفاً على قناة الجزيرة، بعد أن نجحت القوات الباسلة في تدمير مكتبها في القاهرة.
كان ضابط شرطة يفتش في وجوه المسافرين وأوراقهم، فأعطيته جواز السفر، وبطاقة صعود الطائرة، فامتقع وجهه وتغيّرت ملامحه، وقال بأدب “ممكن أشوف التذكرة”، ولما أخرجتها له، طلب مني الانتظار هنا دقائق، واختفى ومعه جواز السفر وبطاقة الصعود والتذكرة.
في هذه اللحظة، تقدّم نحوي شاب، ليحييني ويعرف نفسه “أنا براء أشرف اللي زرتك في مكتبك للتسجيل معك في فيلم تسجيلي عن الدعاية السوداء ضد الثورة”، اعتذرت له، لأنني أذكر الاسم والموقف وأقرأ له كتابات جيدة، لكن الذاكرة لم تسعفني في تذكر الملامح.
قال لي إنه مسافر إلى الدوحة في رحلة قصيرة وسيعود بعدها، فقلت إذن لا بد أن نلتقي بعد العودة إلى القاهرة.
كنت أحدثه بشكل سريع، وأعود، مرة أخرى، إلى القلق والتوتر من اختفاء الضابط بجواز السفر وبطاقة الصعود، فاعتذرت له، مرة أخرى، على عدم التركيز، وقصصت عليه الحكاية.
كان آخر ما طالعته في صحافة القاهرة الإلكترونية، قبل السفر، مزيداً من التوحش في رغبات تصفية المعتصمين في ميدان رابعة العدوية، وخبر يخصني شخصياً، اعتبرته من الأخبار اللطيفة، الأقرب للتنكيت، يقول إن محامياً اسمه سمير صبري تقدم ببلاغ يطالب فيه بإحالتي إلى المحاكمة الجنائية ومنعي من السفر، بتهمة تكدير الأمن العام وإهانة الجيش والشرطة، لأن “المذكور كتب مقالاً تحت عنوان “مرور الكرام.. ثوار كاذبون.. وعسكر”، وقال فيه إننا استيقظنا على بحور دماء برصاص العسكر أكثر من 50 شهيداً سقطوا أثناء صلاه الفجر”.
قلت له ستكون نكتة لاذعة، لو أنهم أخذوا هذا البلاغ مأخذ الجد، ومنعوني من السفر فعلاً “عموماً مش هوصيك بنشر الخبر في السوشيال ميديا، وإبلاغ الزملاء في قناة الجزيرة لو حصل شيء”.
مرت الدقائق ثقيلة، في ذلك اليوم الطويل من شهر رمضان، ويبدو أن القلق انتقل بالعدوى، إلى الشاب ذي الوجه الطفولي، فحاولت أن أبدّد سخف الموقف بنكتة واقعية، حدثت معي عند شباك جوازات السفر، حيث نهض أمين الشرطة من مكانه ليحتضنني مهنئاً بنجاح ثورتهم “مبروك يا باشا، الحمد لله، ثورتنا نجحت وشلنا الإخوان، مش ناقص بقى غير إننا ننظف رابعة من الأشكال اللي فيها”.
ضحك براء، وضحكت، وسألته: “أنا شكلي فلول للدرجة دي، أم هو الوعي العميق لجمهور الانقلاب”. وفجأة قطع ضابط الشرطة وصلة الضحك، حين عاد مقدماً جواز السفر وبطاقة الصعود لي معتذراً عن التأخير والقلق، و”خطأ موظف الجوازات الغبي اللي بدّل بطاقة صعود حضرتك مع راكب تاني”. كان يقصد أمين الشرطة الذي أنسته فرحة الانتصار الدنيا، فأعطاني بطاقة صعود تخص راكباً آخر.
صعدنا الطائرة، بعد أن تصافحنا وتبادلنا أرقام الهواتف، على وعد بالتواصل بعد أسبوع، حين العودة إلى القاهرة، ومر أسبوع وأسبوعان وشهر وشهران وعام وعامان وثلاثة، من دون أن نعود لنلتقي، إذ لم نكن نعلم أن مؤشر الجنون السياسي والمجتمعي سيرتفع إلى هذه المرحلة.
مرّت على تلك الواقعة سنتان وأسبوعان، ولم ألتق براء أشرف، حتى كنت في إسطنبول في رمضان الماضي، وتلقيت اتصالاً “أستاذ وائل، أنا براء أشرف اللي اتقابلنا في مطار القاهرة، سافرنا على طيارة واحدة للدوحة.. فاكرني؟”.
قلت له أذكرك وأعرفك، يا براء، وأتابع ما تكتب، فأضاف: “عرفت أن حضرتك في إسطنبول وأردت أن ألتقيك ومجموعة من الشباب”، فأجبته “يشرفني ذلك بالطبع، لكني في مكان بعيد، وخبراتي في تنقلات إسطنبول محدودة، فهل أطمع في زيارتي بالفندق”.
ولما كان الوقت متأخراً، تلك الليلة، اتفقنا على تحديد موعد آخر للقاء، ولأنها كانت زيارة خاطفة وسريعة، لم نلتق، واستمرت مسيرة الارتحال، حتى قرأت خبراً عن استيقاف سلطات مطار القاهرة براء أشرف أربع ساعات، قبل أن تطلق سراحه، فتذكرت ذلك اليوم، حين كنا في المطار معاً، في موقف مشابه، واستدعيت الحوار، وتخيلت ما يدور في رأسه.
أمس، وجه القدر الضربة الأقوى لحذف فكرة اللقاء مع براء من أجندة الحياة، حيث مد الموت يده، واختار بعناية، دائماً الموت يقتطف الأجمل من الثمار، مات براء أشرف، ماتت موهبة حقيقية، في زمن البقاء للأبلد والأقل كفاءة.
مات غضب حقيقي، وتمرّد غير زائف، رحل عصفور جميل، تاركاً صوامع محفوفة بأجود وأنقى أصناف قمح الموهبة والكتابة الخلابة، على الرغم من قصر الرحلة، دون الثلاثين رحل براء، حين انحشر الحلم في القلب الموجوع.
قطعوا شجرة أخرى مثمرة من أشجار يناير، وبقيت كل أشكال النباتات الطفيلية.. جفَّ نهر للموهبة، وبقيت الطحالب السامة.
فشلنا في اللقاء مرتين، يا براء، لكن الأكيد أننا سنلتقي في الثالثة.