دائمًا ما كان تاريخ الصحافة في مصر مريرًا، ما بين اعتقال الصحفيين تارة ومصادرة الصحف تارة أخرى، تاريخ طويل للحكومات التي تعاقبت على مصر منذ يوليو 1952 في قمع حرية الصحافة.
من إحسان عبدالقدوس نزيل سجون ناصر إلي شوكان نزيل سجون السيسي مرورًا بضحايا العقود فيما بينهما، تبقى الصحافة المصرية مهنة البحث عن المتاعب، ويبقى رجال الصحافة في مواجهة الحظر والمنع دائمًا، وأحيانًا أخرى في مواجهة رصاص الشرطة وخرطوشها وعصي الأمن المركزي واعتقالات رجال المباحث، وربما ضحايا بلطجية يترصدون كل من يحمل مرآة الحقيقة.. الكاميرا.
الجديد في مصر أنه لم يعد شرطًا أن تكون محررًا أو مصورًا ميدانيًّا تغطي التظاهرات والاشتباكات لكي تتعرض للقتل مثل الشهيدة ميادة أشرف، أو للاعتقال مثل عشرات الصحفيين الذين اعتقلوا من منازلهم.
ففي مصر 2015 يمكن اعتقالك من داخل قاعة محاكمة تُغَطيها لمجرد وشاية إلى ضابط بالأمن الوطني تُشَكك في وطنيتك، ربما سيصل الأمر قريبًا مثلًا إلى اعتقال صحفي بدا حزينًا في يوم أعلنته الدولة عيدًا وطنيًّا، أو اعتبرَ في مقال أو تقرير صحفي أن إنجازًا تعتبره الدولة معجزةً ليس إنجازًا ولا حتي يحمل من رائحة الإعجاز شيئًا.
الجميع يعلم أنه لم يعد في مصر صحف تتبني بشكل واضح خطًّا مُعارضًا للنظام القائم، لكن بعض الصحف لا يزال بها بعض من رمق المعارضة.
المتابع للصحف المصرية سيعلم جيدًا أن صحيفة “المصريون” هي الأكثر تجرؤًا على معارضة النظام وانتقاده.
ما حدث مع الصحيفة من منع طباعتها بأوامر جهات سيادية، وفرض حذف مقال رئيس التحرير جمال سلطان الذي ينتقد فيه الجنرال السيسي وتقرير آخر يتحدث عن إمكانية اعتقاله في زيارته لبريطانيا هو بلا شك مهزلة وأمر سيء بأي مقياس، إلا إن الأسوأ أن الأمر مرَّ مرور الكرام، وكأن شيئًا لم يكن، وكأن المنع والمصادرة تحولا إلي أمور طبيعية لا تستدعي تدخل النقابة لمواجهة السلطة وحماية صحفييها.
في أي دولة أخرى بها نقابة تحترم نفسها وتحترم أعضاءها ستوقف النقابة التعامل مع الحكومة وستقاطعها لحين إجراء تحقيق واضح يُحاسب ويكشف من أَصْدَرَ مثل تلك الأوامر، يكشف تلك الشخصية التي تُوصَفْ بالجهات السيادية، وبتليفون صغير منها إلى إدارة مؤسسة الأهرام توقف طبع الصحف.
لكن فيما يبدو فالوضع في مصر يختلف، فمن الواضح أن العديد من المؤسسات الصحفية تحولت إلي أذرع إعلامية للنظام كما وصفها الرئيس السيسي نفسه، وفيما يبدو فتلك المؤسسات ناجحة حتى الآن في شل يد النقابة، في رأيي على مجلس نقابة الصحفيين تسجيل موقف حاسم واتخاذ إجراءات صارمة لحماية حرية الصحافة، وإلا فالاستقالة أكرم وأشرف، وأي سبب أدعي للاستقالة من عدم تمكنك من القيام بعملك؟
باختصار، وظيفة النقابة هي حماية الصحفيين، وهو ما لم تستطع القيام به.
جرائد أخرى قد مُنِعَت وصودِرَتْ، إلا إنها في النهاية تَعُدّ نفسها من أبناء النظام ولم تُكَلِّف نفسها حتى الاعتراض والشجب، لكن “المصريون” عَمَدَت إلي المواجهة، الصحيفة على موقعها الإلكتروني نشرت المقال والتقرير المحذوفين وأشارت إليهما عدة مرات، جمال سلطان مَلَأَ الدنيا ضجيجًا واعتراضًا واستخدم كل المنصات المُتاحة له في ذلك، على الأقل اختاروا المُقاومة.
المصادرة والمنع بمثابة فؤوس تهوي على بلاط صاحبة الجلالة في مصر، والبلاط فعلاً في خطر ويوشك أن يتَصَدَّع، لكن ما زال هناك من يقف على بعض ثغوره، شكرًا لجمال سلطان، وشُكرًا لل”مصريون”.. شكرًا لمقاومتكم.