تصلح قصة “صفر مريم” مثالاً نموذجياً لكيف تهزم المواطن المصري في إنسانيته، وتحيله إلى كائن محطم، لا يساوي جناح بعوضة. مريم ملاك، هي خالد سعيد الحي، الثاني قتلوه تعذيباً على أيدي أفراد “الداخلية”، ثم قالوا إنه ابتلع لفافة من مخدر البانجو، أما مريم فإن عملية قتلها تجري الآن، على أيدي جهاز حكومي يكره التفوق والنجاح، ويزيّف في درجات الحرارة وحالة الطقس، فكيف لا يزيّف نتيجة امتحان طالبة في الثانوية العامة.
أداة القتل المستخدمة في الحالتين واحدة، هي إدارة ضخمة، اسمها مصلحة الطب الشرعي، كما زيّفت تقرير وفاة خالد سعيد، وفصلته على مزاج وزارة الداخلية، زيّفت تقرير نتيجة امتحان مريم في الثانوية العامة، وأصرت على أنها جديرة بدرجة “الصفر”، على الرغم من أن درجاتها في العام السابق، والمراحل التعليمية السابقة، كانت تلامس المائة بالمائة.
هم لا يكرهون مريم، بشخصها، لكنهم لا يطيقون أن ينتصر المواطن المصري في مواجهة إرادة الحكومة، فما بالك والأرقام الكاذبة لعبتهم المفضلة، منذ فرض تقديراتهم المجنونة لحشود الثلاثين من يونيو/ حزيران، وحتى مهزلة المائة مليار، دخلا لتفريعة قناة السويس. ولو وضعت في الاعتبار أن دولة الصفر”صفر المونديال الشهير” عادت إلى مقاعدها وقواعدها الآن، يمكنك أن تتخيل الدوافع النفسية والوجودية التي تجعل الحكومة تخوض المعركة ضد طالبة الثانوية العامة، بالشراسة نفسها التي حاربت بها في قضية خالد سعيد.
انتصر خالد سعيد، ميتا، في الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011، انتصر حين كسرت صفحته الإلكترونية الدولة العسكرية المتغطرسة التي تضخمت على مدار عقود، انتصر حين تفوق الحلم على آلة القمع، وخلع قائدها، بعد ثورة الكرامة الإنسانية، وانهزمت دولة تزوير الانتخابات وتزييف أسباب الوفيات، والنظر إلى المواطن باعتباره دابة في مراعي الاستبداد.
وعلى ضوء ذلك، يمكنك استيعاب هذا التوحش الانتقامي، من “دولة الصفر”العائدة، ضد” إنسان يناير”، تقتله على الهوية، تحرقه حياً، ثم تجبر أهله على الإقرار بأنه مات منتحراً، وإلا سترمى جثته للكلاب، وتعتقله وتسحله وتسجنه وتعذبه، وتأتي بـ” حانوتي حقوق إنسان”، مثل حافظ أبو سعدة، ليدبج تقريرا عن حالة المحبوسين في السجون، لا يختلف عن تقرير وفاة خالد سعيد، أو نتيجة مريم. بهذه الكيفية، مات أحمد سيف الإسلام كمداً، بعد أن شطروا قطعتين من لحمه، سناء وعلاء، وألقوا بهما في غيابة السجن، ثم مات مئات المساجين، أكاديميون مرموقون ومحامون وسياسيون محترمون وشبان نابغون، تعذيباً ونهشاً بالمرض والرطوبة، وكثيرون آخرون ينتظرون.
بهذه الرغبة المتوحشة في الانتقام والإذلال والقهر، يعامل عصام سلطان وعلاء عبد الفتاح والبلتاجي وأحمد ماهر والخضيري وإسراء وصهيب وعمر وعادل ويارا وأبو إسماعيل وأبو البخاري وعشرات آلاف، اعترضوا على مشيئة “دولة الصفر”.
على أن سيكولوجية التدمير والقهر لا تتوقف على المصري المعارض، فقط، بل تأخذ في حسبانها تدمير المؤيدين أيضاً، من خلال حقنهم بجرعاتٍ لا تتوقف من الوهم والكذب والبلادة، وتسييد نمط من القيم، وصنف من الوطنية المتحللة، يقتل الوعي والحلم والأمل بالتغيير، ويقضي على غدد الفهم والتمييز بين الخير والشر، الحق والباطل، القبح والجمال، والعدو والصديق، والشقيق والغريب، والعالي والواطي، والشريف والمنحط، بحيث لا يرى إلا ما يراه جنرالات دولة الصفر، ولا يعتنق إلا ما يريدونه.
وفي وضعية مثل هذه، من الطبيعي أن ينكسر العالم الفيلسوف الدكتور حسن الشافعي، رئيس مجمع اللغة العربية، ونائبه الدكتور محمد حماسة، أمام رئيس “جامعة الصفر” القاهرة سابقاً، ويصبح من مستلزمات البقاء على قيد الحياة، والنجاة من توحش السجن، أن يتخلص المواطن من جنسيته المصرية، ويتنازل صاغراً عن ممتلكاته وحقوقه وجذوره الممتدة في عمق الزمان والمكان.
قالها صلاح عبد الصبور ورحل: في بلد لا يحكم فيه القانون/ يمضي فيه الناس إلى السجن بمحض الصدفة/ لا يوجد مستقبل في بلد يتمدد فيه الفقر/ كما يتمدد ثعبان في الرمل/ لا يوجد مستقبل.
عفواً مريم: لا يوجد مستقبل.