قبل قليل من بداية عصر المماليك، قدمت مصر للأمة العربية و الإسلامية؛ نوعا فريدا من العلماء؛ هو العز بن عبد السلام، المعروف بسلطان العلماء، و بائع الملوك و الأمراء. و قد نال العز بن عبد السلام هذه المرتبة بعد أن قدم إلى مصر، و قد كان قبلها مضطهدا، في بلاد الشام، تحت حكم الصالح إسماعيل. و قد منحت مصر أيضا الشاعر أحمد شوقي لقبا ملكيا؛ و هو أمير الشعراء. فمصر كانت على مدى تاريخها قبلة العلماء و الفقهاء، الأدباء و الشعراء.
كانت مصر قديما تتوج العلماء بأوصاف السلاطين و الأمراء. أما اليوم و لأن وصف “السلطان” أصبح من الماضي، و تماشيا مع “حالة الحرب” التي تعيشها مصر، فقد برز من بين العلماء في كل مؤسسة و تخصص؛ من يمكن تسميته بـ “هتلر العلماء”. و هتلر العلماء هذا، لا تظهر هتلريته و عنتريته، إلا على أهل العلم و العلماء؛ بينما هو خادم مطيع للملوك و الامراء. و هتلر العلماء يختلف عن سلطان العلماء، في أنه يؤمن بأن “حذاء الأمراء” يجب أن يكون فوق رؤوس العلماء؛ بينما يرى سلطان العلماء، أن العلم يعلوا و لا يعلى عليه.
شهدت السنوات الثلاث الأخيره في مسيرة الوطن، موجه عنيفة من الإختراعات العلمية، التي هزت العالم، و أوقفت الدنيا كلها على رجل؛ و أهم هذه الإختراعات كان جهاز علاج الإيدز بالكفتة، و كذالك اختراع “فص كبد” صناعي بكلية الإقتصاد المنزلي بالمنوفيه؛ و إن كان المتوقع لإختراع كهذا، أن يخرج من كلية الآداب. و لكن على أية حال، فإن الله يضع سره في أضعف خلقة. و مصداقا لهذه المقولة، فقد توالت اكتشافات طلاب المدارس المصرية، بصورة غير مسبوقة في تاريخنا. فهذا طالب – في المرحلة الإعدادية – يكتشف خطأً فادحًا في قوانين نيوتن؛ و آخر في المرحلة الإبتدائية، يثبت للصحافة فشل نظرية آينشتين، و آخرون في مراحل التعليم المختلفة، قدموا اختراعات لعلاج السرطان، و الزهايمر، و البركنسون، و الملاريا؛ و غيرها من الأمراض المستعصية، و التي وقف البحث العلمي، عاجزا أمامها، لزمن طويل، في جامعات أوروبا و أمريكا.
كانت هذه الإختراعات تتوالى من طلاب المدارس بينما، يحتدم النقاش على مستوى واسع حول أحقية الفنان العظيم شعبان عبد الرحيم بالحصول على الدكتوراه الفخريه، خصوصا بعدما حصلت الفنانة القديرة فيفي عبده على لقب الأم المثالية. و في وسط هذه الأجواء من الإزدهار العلمي و الحضاري، كان لابد لجامعة القاهرة أن تستغنى عن خدمات اثنين من العلماء القدامى، خصوصا أنهما حصلا على شهادة الدكتوراة منذ زمن بعيد جدا، و ذلك قبل أن يحصل أكثر من يديرون المشهد الآن على الشهادة الإعدادية. هذان العالمان هما: الأستاذ الدكتور حسن الشافعي، رئيس مجمع اللغة العربية، و الأستاذ الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف، نائب رئيس مجمع اللغة العربية، و هما أستاذان بكلية دار العلوم جامعة القاهرة.
و إذا كان الدكتور حسن الشافعي قد خالط أهل السياسة، و شارك في لجنة كتابة الدستور، ممثلا عن الازهر، و كذلك أصدر من موقعه، كمستشار لشيخ الأزهر، بيانا إنسانيا، يدين ما حدث في مجزرة رابعة، فقد عُرف السبب، و بطل العجب، و فهمنا لماذا يطارده هتلر جامعة القاهرة.
و لكننا لا نفهم لماذا غضب هذا الهتلر على الدكتور محمد حماسة. فالرجل لم يمارس العمل السياسي في حياته قط، و لم يرتبط اسمه إلا باللغة و النحو و الأدب و الشعر على مدى سنوات عمره، و قد جاوز السبعين. و الدكتور حماسة كما تصفة الموسوعة العالمية و يكيبيديا: ” نحوي وأديب وشاعر، من أبرز علماء العربية، في العصر الحديث، وانتُخب نائبا لرئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة”. و هو يدرّس بجامعة القاهرة، منذ ما يزيد عن خمسين سنة، و له عشرات المؤلفات، و الأبحاث، والكتب، و الدواوين الشعرية. كل هذا بعيدًا عن السياسة، و الحكومة و المعارضة. و لكن التهمة التي وجهتها له جامعة القاهره، تليق بمستوى الإختراعات و “الإفتكاسات” التي تشهدها مصر، فهو يجمع بين وظيفته في الجامعة و عضويته بمجمع اللغة العربية (مجمع الخالدين)، رغم أنه منصب شرفي، و لم يشغله إلا أساتذة الجامعات طوال تاريخة.
و لا أدري، ماذا كانت تتوقع جامعة القاهرة من الدكتور حماسة، أستاذ النحو و الصرف و اللغة العربية، أفضل و أشرف من أن يكون عضوا، و نائبا لرئيس مجمع الخالدين؟ هل كان يجب عليه، أن يكون عضوا، في نوادي الروتاري، و اللوينز، بدلا من مجمع اللغة العربية؟ أم كان يجب عليه أن يفتح مكتبا للمحاماه و الإستشارات القانونية مثل السيد رئيس الجامعة؟ و يجمع بين العمل في الجامعة و العمل بالمحاماه؟ أم أنه كان يجب عليه أن يلتحق بعضوية جمعية جيل المستقبل مع رئيس الجامعة؟ أو أن يرافقه في عضوية لجنة السياسات بالحزب الوطني؟!
أعتقد أنه لو أراد النظام الحاكم، أن ينتقم من الدكتور حسن الشافعي، على موقفة مما حدث في رابعة العدوية، فلم يكن ليمنعه أحد، و لفعل ذلك في حينه –كما فعل مع غيره- و ليس بعد مرور عامين. و لكن الأمر يبدوا أنه حرص “هتلر العلماء” الشديد على التزلف و التقرب للأمراء، بإيذاء العلماء و إهانتهم. و ربما نفهم في هذا السياق أيضا، الرغبه في إهانة الدكتور محمد حماسة، و ذلك لقربه من الدكتور الشافعي، رغم بعده عن السياسة، حيث أن مبدأ هتلر هو: (يخرب بيت اللي يعارضني، و يخربيت اللي مش بيعارضني…. بس جنبه واحد بيعارضني). أو ربما كان ذلك عملا بمبدأ جورج بوش: من ليس معنا فهو ضدنا!
قيمة عالم جليل مثل الدكتور محمد حماسة، لا يضاهيها منصب و لا وظيفة؛ و يعرفها طلابه و محبوه على مستوى العالم العربي و الإسلامي. و لعله هو و غيره من العلماء، الذين تسلط عليهم هذا الهتلر، و كل هتلر، يرددون في صمت: إن كان عندك يازمان بقية.. مما تهين به الكرام فهاتها.