لعل من أهم مزايا الانقلاب والنتائج التلقائية المترتبة عليه – والتي لم يكن ينتظرها الثوار أنفسهم في مصر – هو التمايز شديد الوضوح، في كافة المجالات، بين أنصار الثورة وأتباع الثورة المضادة، الذين سقطت أقنعتهم وانكشف زيفهم ونفاقهم، بعد أن زايدوا طويلا على الثوار، بهدف توريطهم أو تضليلهم أو التقليل من التفاف الناس من حولهم، كي يكفروا بالثورة ويفقدوا الأمل فيها!
لكن الثورة الآن – وفي القلب منها الشباب الإسلامي وشباب الإخوان – بحاجة إلى نوع آخر من التمايز، ليس للتفريق بين من يريد الحق ومن يتبع الهوى، بل هو تمايز داخل الصف الثوري نفسه، حتى نفهم الفارق بين من التضحية والمهارة، وبين البراعة في العبادة والبراعة في القيادة، كي لا يوسد الأمر إلى غير أهله، ممن يجيد التضرع إلى الله – بإخلاص – ولا يحسن إدارة شؤون البلاد والعباد!.
1 – أبو ذر رضي الله عنه فهم الفارق بين العبادة والقيادة:
ليتنا نتعلم من الصحابي الجليل أبي ذر رضي الله عنه، حين تاقت نفسه إلى أن يوليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الولايات، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أنه يعلمه الفارق بين العبادة والقيادة وأنه لابد من توافر مؤهلات خاصة فيمن يتولى أمر المسلمين؛ التقوى إحداها، والمهارة ضرورها موازية لها كذلك!
فالحديث أخرجه الإمام مسلم وأحمد عن أبي ذرٍ نفسه رضي الله عنه، قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَىَ مَنْكِبِي. ثُمّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرَ إنّكَ ضَعِيفٌ وَإنّهَا أَمَانَةٌ، وَإنّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلاّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقّهَا وَأَدّى الّذِي عَلَيْهِ فِيهَا.
قال النووي رحمه الله: هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية.
لم يحزن سيدنا أبي ذر من وصف الرسول صلى الله عليه وسلم له بالضعف؛ بل فهم جيدا الدرس الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه ويعلمنا إياه، فقام هو بنفسه برواية هذا الحديث، حتى تتعلم الأمة من بعده أن كثرة العبادة وحفظ الأحاديث ومصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها مؤهلات لا تكفي وحدها لمنصب القيادة!
2 – عمرو بن العاص رضي الله عنه قائدا بعد شهر واحد من إسلامه!
ورغم أن القرآن الكريم يخبرنا أن الصحابة الذين أسلموا مبكرا أفضل عند الله من المتأخرين، إلا أن ذلك لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يولي بعض المتأخرين في إسلامهم على من هم أفضل منهم من السابقين!
ومن هؤلاء السابقين إلى الإسلام سيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه، الذي اشتهر بثباته على تعذيب أمية بن خلف له في صحراء مكة، ومع ذلك فلم يعرف عنه أن كان قائدا حربيا أو قياديا سياسيا قط! بينما سيدنا عمرو بن العاص الذي أسلم في جمادة الأولى سنة 8 هـ ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قيادة الجيش بعد إسلامه بشهر واحد، في سرية ذات السلاسل!!
فلقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعَا من قبيلة قضاعة قد تجمعوا يريدون المدينة، ، فدعا عمرو بن العاص رضي الله ، وبعثه في 300 من المهاجرين والأنصار.. فلما قرب من القوم بلغه أنهم كثر، فبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه المدد، فبعث إليه الصحابي الجليل أبا عبيدة بن الجراح في 200، من المهاجرين والأنصار وفيهم أبو بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فلحق بعمرو، فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس، فقال عمرو : “إنما قدمت عليّ مددًا، وأنا الأمير” ، فأطاع له بذلك أبو عبيدة.
وقد كتب الله النصر لجيش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص وفر الأعداء ورفض عمرو أن يتبعهم المسلمون، كما رفض حين باتوا ليلتهم هناك أن يوقدوا نارا للتدفئة، وقد برر هذا الموقف بعد ذلك للرسول حين سأله أنه قال: ” كرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد فيعطفوا عليهم، وكرهت أن يوقدوا نارا فيرى عدوهم قلتهم “، فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم له حسن تدبيره!
***
3- رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل المشورة وهو المعصوم، ولم يغضب!
هناك مطاعم كثيرة تتطلب minimum charge ، وتعني حدا أدنى لتكلفة الجلوس فيها! لكن من رحمة الإسلام أنه لا حد أدنى من التضحيات مطلوب قبل إبداء الرأي والنصح!! بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم النصيحة واجبة عل كل مسلم.
لكن البعض للأسف حين يبدي أحدهم رأيا أو يقدم نصحا يقوم على الفور بشخصنة الأمور، واتهام هذا الناصح في نيته ويستقل عمله، ويهون من تضحياته، رغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشترط حدا أدنى من التضحيات كي يقدم المسلم نصيحته!
فقبيل غزوة بدر جاء صحابي – لم نعرف اسمه قبل هذه الواقعة – وهو الصحابي الجليل الحباب بن المنذر رضي الله عنه، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وانتقد المكان الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون مكانا للجيش، بعد أن تأكد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل بهذا المكان وحيا من الله، وإنما اجتهاده هو صلى الله عليه وسلم، فأشار عليه سيدنا الحباب بما هو أفضل منه، وقال له:
“يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة).
قال: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم ـ قريش ـ فننزله ونغوّر ـ أي نُخَرِّب ـ ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضًا، فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي.
(الرحيق المختوم)
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم خير البشر قبل النصيحة، دون أن يغضب لأن شخصا أدنى مرتبة منه عدل عليه، أفلا يفعلها من هم دونه! احذروا الشخصنة، فإنها العدو اللدود للنصيحة!
4– حسان بن ثابت رضي الله عنه: فارس بالشعر لا بالسيف:
ومن أعداء النصيحة أيضا قصر الجهاد على نوع واحد فقط، والتسفيه مما سواه، فالجهاد بالسيف – رغم أنه ذروة سنام الإسلام – ليس النوع الوحيد والحصري للجهاد في سبيل الله، وخصوصا أنه قد لا يكون متاحا للجميع! فهناك الجهاد السياسي والإعلامي والفكري…إلخ. وكلها يؤجر صاحبها إن شاء الله لأهميتها!
ومن المعروف أن شاعر النبي صلى الله عليه وسلم كان حسان بن ثابت رضي الله عنه، رغم أنه لم يكن معروفا عنه الشجاعة في الحرب، وقصة إحجامه عن القتال يوم الأحزاب مشهورة، لكن ذلك لم يمنعه من البراعة في مجال آخر هو الشعر الذي يحمس به المؤمنين ويهجو به الكافرين!
لم يستقل الصحابة رضوان الله عليهم عمله، ولم يقولوا له إنك تحب التنظير، وعملك قليل، بل اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعرا خاصا له، وقال له:
” اهْجُهُمْ ، أَوْ هَاجِهِمْ ، وَرُوحُ الْقُدُسِ مَعَكَ ” ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ .
5 – اتقوا الله فيمن يقود الثورة!
خلاصة ما أود أن أقوله: لا تقدموا شخصا لقيادة فقط لأنه كثير العبادة أو التضحية، بل استعينوا بأصحاب المهارات المؤهلين من أهل الإيمان، وتعلموا من موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي ذر رضي الله عنه، حين وضح له ولنا أن العبادة لا تكفي للمسؤولية، مع امرؤ ضعيف!
ولا تقللوا من شأن شخص قدم النصح إليكم، فقط لأنه لم يدخل المعتقل 20 عاما، أو لا يدير عملا ظاهرا على الأرض، فالحباب بن المنذر رضي الله عنه لم نسمع عته إلا يوم بدر، وانتقد مكان اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم! ونعيم بن مسعود رضي الله عنه لم يسلم إلا في غزوة الأحزاب، ولم يذق من ضيق الحصار في المدينة، أو في حصار المسلمين في مكة في شعب أبي طالب، ومع ذلك جعله الله عز وجل سببا للتفريق بين قريش وغطفان، وانفكاك الحصار عن المسلمين!
تعلمنا من الإخوان أنهم دعاة لا قضاة، لكن بعضهم يصير قاضيا متحاملا على من يقدم النصح والنقد، فيشخصن الموضوع، ويقلل من الناصح، رغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم قبل النصح من رجل أقل منه مرتبة!
اعتمدوا على الكفاءات! ولا تخلطوا بين التضحية والمهارة فالأولى أجرها عند الله، والثانية هي نعمة من الله! فاستفيدوا من المهارات المهدرة والطاقات المعطلة، ولا تعتبروا النقد والمطالبة بالتقييم عيبا، فهذا واجب علينا ومن أسباب النصر، إذا أردنا حقا أن ننتصر!