في الأبيض الناصع، تتوكأ الصغيرة إسراء الطويل على عكّازها، يحيط بها الجنود والضباط المسلحون، في طريقها إلى الحصول على قرار جديد، بتمديد حبسها، بلا تهمة، خمسة عشر يومًا أخرى.
في اللحظة نفسها، كان جنرال المقتلة ينحني أمام نصب الجندي المجهول في موسكو، حيث هرول إلى روسيا، حاجًّا للمرة الثانية في أقل من عام.. هرول السيسي، هذه المرة، قبل الموعد الذي حدده السيد الروسي له بأربع وعشرين ساعة، على حد اعتراف واحد من عسكر إعلامه.
قارن بين التشريفة الرسمية، المدججة بالسلاح، والتي استقبلت إسراء الطويل، لدى نزولها، لا تقوى على المشي، من سيارة ترحيلات الشرطة، وذلك المشهد البائس المذل الذي خيم على وصول الجنرال الذي حبسها، واستأسد على طفولتها وعجزها، إلى المطار في روسيا، ليكون في استقباله أحد مساعدي وزير الخارجية الروسي.
هرول الجنرال مبكرًا، لكي يلحق بكفلائه وأولياء نعمته هناك، مواصلًا البحث عن دور في جريمة قتل الثورة السورية، ومكافأة أستاذه ومعلمه ومثله الأعلى، في شغل المجازر الجماعية، بشار الأسد. سافر وفي يده بضع نقاط من الرضا الصهيوني، نتيجة اختطاف أربعة من المقاومين الفلسطينيين، هدية منه للكيان الصهيوني المحتل، لكي يقف في خشوع أمام نصب الجندي الروسي، وفي اليد الأخرى، نقاط إضافية، ثمنًا لإرسال بعض قواته إلى اليمن، توفر له صمتًا إقليميًا على مذابحه بحق شعبه.
مشهد إسراء الطويل، لا تقوى على الحركة، بعد 86 يومًا في الحبس، يعبر عن مصر الجديدة، في مرحلة “ما بعد الوساخة والانحطاط” التي تذهل العدو المستفيد بها، قبل الشقيق والصديق المتضرر منها، تلك المرحلة التي تخرج فيها مذيعة مصرية لتصرخ في الجنرال أن يحذو حذو إسرائيل، ولا ينتظر موافقة من أحد كي يدك غزة، ويسوّيها بالأرض “إسرائيل مش أحسن مننا عشان تشن حربين على الفلسطينيين واحنا لا”.
ثم تكمل أخرى الهتاف الوطني، مطالبة بسحق الصراصير الفلسطينيين، دعسًا بالأحذية، أو رشًا، بالنيران طبعًا.
تقول المذيعة بكل فخر “احنا وشنا مكشوف”، وتقول الأخرى التي تتلو ما استطاعت حفظه من خطاب الحاخامات وغلاة الصهيونية إن على “الأسود” أن يعلنوا الحرب على “الصراصير” فورًا، ويكتب آخرون، “بالوش المكشوف ذاته”، أنه حان الوقت لكي تقتحم مصر السيسي الأراضي الليبية، تدعيمًا لجنرالها المنقلب خليفة حفتر، والحجة هي ما تجعل السيد الروسي ينتشي طربًا “الحرب على الإرهاب”، واللافت أن حالة السعار للحرب السيسية على دول عربية شقيقة لم تندلع، ولم تفصح عن نفسها بكل هذه البجاحة والوقاحة، إلا بعد الإعلان رسميًا عن إرسال قوات إلى اليمن، لمساعدة التحالف العربي هناك.
هو المنطق الصفيق، إذن، الذي يطالب بالثمن مقدمًا، قبل تقديم المطلوب، والثمن ما أفدحه، وما أكثر ضحاياه، في سورية وفي مصر وليبيا وفلسطين، ذلك كله لأن المستولي على السلطة قرر أن يضحي بزميله وصديقه، قائد الانقلاب الطائفي في اليمن، أو قل يبيع مشروع انقلاب غير مضمون الربح، لكي يشتري نجاح انقلاب آخر على حدوده الغربية، وينتشل استبدادًا راسخًا في سورية من تعثره.
لا يعلم أحد كم ألفًا من القوات أرسل السيسي للحرب في اليمن، لكننا بالتأكيد نعلم عدد الآلاف من المشردين والنازحين من الشعب السوري الذين يسددون الفاتورة، متكدسين في العراء على حدود أوروبا التي فضلت أن تتشح بالعنصرية القديمة، وهي تغلق الأبواب في وجوههم.. ونعلم أيضًا أن هناك أكثر من ستين ألفًا من المحبوسين في مصر، مساهمين بأجسادهم وأرواحهم وحرياتهم وكرامتهم في سداد الثمن.. ونعلم كذلك أن خزائن عواصم أوروبية عجوز تنتعش الآن في مقابل استقبال الجنرال المدلل إقليميًا، من المعسكر الكاره لثورات الربيع العربي، وتصويره يهبط مطارات ويمشي على البساط ويتبادل القفشات مع زعماء يدركون، قبل غيرهم، أنهم داعمون بأجر لواحد من أعتى مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية.