تتباين الآراء بشدة حول مدى جدوى مشروع حفر تفريعة جديدة لقناة السويس، وبينما لا نعلم من أين أتى المتحمسون للمشروع بكل هذه الثقة في نجاحه خصوصا مع عدم طرح الحكومة لأية دراسة جدوى أو تقارير مفصّلة عن أهدافه حتى الآن، تأتي آراء نسبة كبيرة من المتشككين في نجاح المشروع منطقية؛ خصوصا هذه الشكوك التي تضع في الاعتبار عددا من المشروعات التي أعلنت عنها الدولة خلال العامين الماضيين وانتهت إلى لا شيء دون أي محاسبة أو مراعاة لعقول وآمال المواطنين مثل الإعلان عن جهاز علاج الإيدز وفيروس سي ومشروع المليون وحدة سكنية، وأخيرا مشروع العاصمة الجديدة.
سبب آخر يجعل الجانب الرافض للمشروع أكثر منطقية هو الميراث السيئ للأنظمة الديكتاتورية عموما، والمصري منها خصوصا، الذي يمكن اختصاره في أنه لا ديكتاتور بدون إنجاز تاريخي باسمه وجداريات على الحوائط تحمل صورته وفي الخلفية مشروعه العظيم والأمثلة على ذلك كثيرة.
وقد يظهر من عنوان المقال أن حكما مسبقا قد صدر على المشروع المزعم افتتاحه في 6 أغسطس الجاري، وأن المقال هو محاولة لحجز مقعد بين جماهير الفريق المعارض في مقابل الجمهور الآخر المؤيد للمشروع. على العكس من ذلك، يهدف المقال لوضع المشروع في سياقه الصحيح لمعرفة أين نقف منه، كما يسعى المقال للنظر لهذا المشروع من خلال منظورين لنطلق على الأول المنظور (التوشكوي) -وهذا دلالته معروفة- والآخر منظور (دعه يعمل من أجل مصر، دعه يمر).
نقص أو إخفاء المعلومات
بالطبع يعاني كل مهتم بالمشروع من صعوبة في الحصول على معلومات موثقة عن طبيعة المشروع والمستهدف فعليا منه، هذا إلى جانب عدم تقديم الحكومة لأية دراسة وافية عن المشروع وجدواه والمكاسب المتوقعة منه، وزاد من الضبابية حول تفاصيل المشروع تضارب تصريحات المسؤولين، بدءا من الأمر العسكري بتقليص مدته من ثلاث سنوات إلى سنة، وحتى تصريح رئيس هيئة قناة السويس لجريدة الأهرام بأن الانتهاء من المشروع سيحقق للاقتصاد المصري أكثر من 100 مليار دولار سنويا. المهم أننا لم نحصل من الحكومة سوى على فيديو به مجموعة من المراكب توضح كيف سيكون الازدواج بعد حفر التفريعة الجديدة وتصريحات في بعض الصحف من المستشار القانوني لمشروع تنمية قناة السويس (وهو شق آخر يختلف عن حفر التفريعة الجديدة) لا ترقى هذه التصريحات لتكون خطوط عامة للمشروع.
دائما ما يتعمد النظام خلق هذه الحالة الضبابية، بل لنقل أن النظام لا يستطيع العمل إلا في هذا الضباب الكثيف، فأحد المسؤولين يطلق الكذبة ثم يتركها لتتأرجح بين رأي مؤيد وآخر معارض لتستقر الكذبة في شكل شبه منطقي، ليطل علينا المسئول مرة أخرى يفسر لنا ما لم يدركه أحد، وهو أن المشروع سيؤتي ثماره بعد عشرين أو ثلاثين أو مئة عام من الآن. طبعا في المشروع المسمى زيفا بالقناة الجديدة أُطلقت الكذبة في مؤتمر رفيع المستوى في حضور رئيس الجمهورية المنتخب باللا برنامج والمتفرغ للحرب على الإرهاب ليفاجئنا بأن في جعبته مشروعا ضخما كهذا.
توشكى جديدة؟
لنحاول أن نلقي نظرة على المشروع بقلق وتوجس من عاصر مشروع توشكى وتمايل طربا لخطاب الدولة عن جنة توشكى وما تحمله من آمال ووعود لهذا الشعب البائس دون نتيجة تذكر للمشروع حتى يومنا هذا. روح توشكى اليوم تحل في مشروع لحفر تفريعة لقناة السويس بطول 35 كم سبقها حفر لتفريعات عديدة مثل تفريعة البلاح وتفريعة كبريت وتفريعة البحيرات وتفريعة شرق بورسعيد.
والمقارنة بين التفريعة الجديدة وسابقاتها يوضح الحجم الحقيقي للمشروع؛ فمثلا تفريعات البلاح والكبريت والبحيرات تم إنشاؤها بأطوال 9 كم و7 كم و12 كم على التوالي في الخمسينيات، بينما شهدت الثمانينيات إنشاء تفريعة التمساح بطول 4 كم وتفريعة بورسعيد بطول 40 كم، ومن خلال النظر على الأرقام السابقة يتضح قدر المبالغة في الاحتفال بالتفريعة الجديدة ودور الإعلام في تصدير رؤية مزيفة حول المشروع.
وبحسب تصريح لمهاب مميش، رئيس هيئة قناة السويس، في أحد البرامج التليفزيونية، فإن معدل المرور اليومي للسفن في قناة السويس 49 سفينة يوميا، والمستهدف في عام 2023 بعد افتتاح التفريعة الجديدة -والكلام ما زال لمميش- 97 سفينة يوميا، في حين أنه في عام 2008، أحد أكثر الأعوام انتعاشا في حركة الملاحة في قناة السويس قبيل الأزمة الاقتصادية العالمية، بلغ معدل المرور في القناة 59 سفينة يوميا حسب الموقع الرسمي لهيئة قناة السويس؛ وبديهيا أن ازدياد أو انخفاض عدد السفن العابرة لقناة السويس مرهون بازدهار أو ركود حركة التجارة العالمية، إذن ما يتوقعه مهاب مميش هو تضاعف حجم التجارة العالمية بحيث تستوعب القناة (وهي تحمل فقط 10% من حجم التجارة العالمية) ضعف ما تستوعبه في 2015، هذا في ظل منافسة بين قناة السويس وقناة بنما والخط الملاحي في بحر الشمال كأهم ثلاثة مجاري ملاحية حاليا. وهذا ما كان محل انتقاد في الصحف الأجنبية حول المبالغة المصرية في تقدير نتائج المشروع الجديد.
كما أن الحديث عن ما توفره التفريعة الجديدة من زمن الرحلة ومقارنة الساعات الخمسة التي سيتم توفيرها بالزمن الكلي للرحلة لا يمكن اعتباره نقلة نوعية في النقل البحري.
إن مجرد البحث في بعض النقاط البسيطة بموضوعية، على قلة المتاح من معلومات معتمدة ومطابقة ذلك بتصريحات القائمين على المشروع، يوضح مدى الاستخفاف بعقول هذا الشعب ومدى انحطاط هذه الدولة، فالمشروع اُقر وبدأ وانتهى ثم بعد ذلك يأتي البحث له عن جدوى ونتائج إيجابية.
دعه يعمل من أجل مصر.. دعه يمر ولو على رقاب المصريين
من حق الجميع أن يتمسك بالأمل في صدق توقعات السيسي ومميش لآخر لحظة مثلما انتظر غيرهم رغيف الخبز المصنوع من قمح توشكى، كل ما نسعى إليه هو البحث عن إجابات لبعض الأسئلة.
لا يمكن النظر لمشروع حفر التفريعة الجديدة، وما سيتبعه من مشروع لتنمية محور قناة السويس، بمعزل عن ترسانة القوانين المصرية المجحفة للعمال والمنحازة للمستثمرين والتي زادها السيسي سوءا بما يدخله عليها من تعديلات ليل نهار. وبينما تخبرنا التقارير عن أكثر من 40 ألف عامل شاركوا في حفر التفريعة الجديدة، لم نسمع عن قرار رسمي واحد يحدد الحد الأدنى للأجر اليومي للعاملين بالمشروع مثلما تحدد سعر الحفر للمتر المكعب الواحد وسعر نقله، ولم يُعلن عن تأسيس نقابة واحدة بل حتى لم نعرف مصير أسر العمال المتوفين أثناء أعمال الحفر.
لم تُعلن الدولة عن خطة إجلاء أهالي القرى التي تقع في نطاق المشروع مثل قرية الأبطال، وما ذُكر عن تعويضهم بمساكن لم يذكر شيئا عن مزارعهم أو مصادر معيشتهم الجديدة بعد الإخلاء.
في ظل قانون السيسي الجديد للعمل، سيصبح الحديث عن مليون فرصة عمل نوعا من الحرب على أبناء هذا الشعب وليس تشغيلا لهم، فقانون يجرّد العامل من أهم حقوقه سيقدم العامل المصري لقمة سائغة للمستثمرين. والعكس بالعكس، فإن ما نراه من عقود بين شركات أجنبية، مثل ميرسك العالمية في ميناء شرق بورسعيد وشركة مواني دبي في ميناء السخنة، يكشف كيف أن الدولة بأجهزتها ومؤسساتها تتهافت على بيع حق الشعب للمستثمر بل وتمديد هذه العقود رغم ما بها من عوار.
هذا المشروع برمته، منذ بدء الإعلان عنه وحتى الانتهاء منه مرورا بطرحه على المكاتب الاستشارية والشركات المنفذة وما يحيط به من قوانين، ما هو إلا قربان يقدمه السيسي ليثبت للرأسمالية في كل مكان أنه خادمها المطيع في هذه المنطقة من العالم وفوق رقاب هذا الشعب. وفي الوقت نفسه يستغله داخليا ليضع رتوشا أخيرة على صورته كبطل منقذ استطاع إنجاز المشروع في سنة.
ولكن في حقيقة الأمر أن الوضع الاقتصادي المأزوم في مصر لا يحتمل مزيدا من المشكلات التي يصنعها نظام عاجز عن تقديم حلول جذرية لمشاكل مزمنة أنتجتها نفس السياسات عبر عقود طويلة من تزييف وعي الجماهير وحشد التأييد نحو مشروعات غير واقعية وغير مثمرة.
نعم “مصر السيسي” ستفرح، لكن “مصرنا” عليها أن تبدي مزيدا من القلق والرغبة الملحة في إيجاد حل.