الإهمال هو منتج مصري بامتياز، يستمر إنتاجه طوال العام، ولأن لكل منتج مواسمه، فكان موسم الإهمال هذه الأيام؛ فقد ظهرت له ثلاثة موديلات رئيسية..
أولها: كان في شكل مقتل أربعين شخصًا جراء اصطدام صندل نهري تابع للقوات المسلحة بمركب كان يستقله هؤلاء الضحايا.
ثانيها: مقتل أربعة أطفال جراء إسعافهم بمحلول جفاف منتهي الصلاحية بأحد مستشفيات بني سويف.
والأخير: كان على شكل وفاة أربعة وعشرين شخصًا حرقًا بسب حريق شب في أحد مصانع الآثاث غير المرخصة، كل ذلك بخلاف حوداث الطرق التي أصبحت خبرًا رئيسيًا يتم تداوله يوميًا فى جميع وسائل الإعلام.
ولأن الإهمال صنعة، فمحترفو تلك الصنعة كثر، بدءًا من رئيس الوزراء الذي لم يقطع زيارته لغينيا الاستوائية وإيطاليا عندما وقعت حادثة مركب الوراق، بل إنه لم يكلف نفسه ويدلي بأي تصريح حول هذه الحادثة طوال تلك الزيارة، أما الوزراء المسؤولون عن هذه الحواداث “الرى، النقل، الصحة، الداخلية، التنمية المحلية، الدفاع، الصناعة، والمحافظون” لم نر منهم أي فعل، ومن ذهب منهم لموقع الحادث لم يستغرق سوى دقائق معدودة وغادر المكان، ولم يتخذوا أي إجراءات لمحاسبة المقصرين ولم يصدر من أي منهم أي قرار، واكتفوا فقط بتقديم بضعة آلاف للذين سقطوا في هذه الحوادث.
أما السيسي، فلا صوت له وكأن هذه الحواداث في بلد آخر، بل كان مشغولًا برعاية اللاعب الكونغولي الذي أصيب في مباراة الزمالك، كل هذه الحواداث وما تبعها من رد فعل من النظام الحاكم تؤكد أن الإهمال هو الابن الشرعي لهذا النظام الذي يتولى مقاليد البلاد.
وإذا أردنا أن نبحث عن مكونات الإهمال، وكيف أصبح هذا المنتج ذائع الصيت في جميع أنحاء الجمهورية، فنجد أن الماكينات التي شاركت في صناعة هذا المنتج متعددة؛ فعلى سبيل المثال هناك ماكينات المحسوبية والرشاوى وانعدام الضمير وعدم وجود رقابة فعالة على الخدمات التى تقدم للمواطنين، فضلًا عن شعور المسؤولين بأنهم لم ولن تتم محاسبتهم مهما فعلوا بحق هذا الشعب.
كل هذه الأسباب وغيرها، كانت كفيلة بأن يصل الإهمال إلى ذروته في أرجاء مصر، وأن يؤمن المواطن بأنه لا يمثل أية قيمة عند هذا النظام الذي لا يحمي إلا رجاله فقط.
أما الآثار الجانبية للإهمال، فحدث ولا حرج عن تفشي ظواهر سلبية داخل المجتمع نتيجة إحساس المواطن العادي بأن حياته لا تساوي عند حكومته إلا عدة آلاف من الجنيهات، وأن الطبقية والعنصرية ما زال لهما دور في هذا المجتمع فالمواطن العادي يرى أن الحكومة تتعامل مع فئات معينة “جيش، شرطة، قضاء،…” بأسلوب يختلف عما تتعامل به معه، كل ذلك يؤدي بالمواطن البسيط إلى فقد روح الإنتماء لهذا الوطن وذلك بسبب الإهمال الذي صنعه هذا النظام.
هذا الإهمال منتهي الصلاحية منذ أن تم إنتاجه، لأنه يتكون من مواد غير صالحة للاستخدام، وإذا أردنا أن نوقف مصانع الإهمال المنتشرة في ربوع الوطن كان لزامًا علينا أن نعدم كل مكوناته ونعمل حظر استعمال عليها فلا بد من وقف المحسوبيات ومحاسبة كل مسؤول في البلد مهما علا شأنه وتفعيل الرقابة على الخدمات والعمل على إنشاء هيئة مكافحة الفساد، ولكن -وبكل تأكيد- لن نستطيع أن نمنع الفساد طالما أن الاستبداد والديكتاتورية هي المسيطرة على البلاد، فبإنهاء الاستبداد نكون قد سلكنا الطريق الصحيح لمنع الفساد ومحاسبة المتورطين، ومن ثمّ نكون قد أوقفنا الإهمال وصناعته.