كشفت أجواء التوقيع على مسودة الحوار الوطني، عن حالة الانقسام المزمنة التي سادت الفترة الانتقالية، وكان من المفترض مع طرح خمس مسودات للحل السياسي، أن تتلاشى الخلافات الجوهرية، لكنه ما إن انتهى بث حفل التوقيع على الهواء مباشرة، ظهر أن مسودات الحوار لم تقدم جديدًا، وظلت العثرات تحول دون التفاهم على الحلول الإستراتيجية، ما يثير التساؤل عن جدوى المسارات الحالية للحل السياسي، وإمكانية طرح مسارات أخرى، تكون أكثر قابلية للتوافق.
البعثة الأممية وتأزيم الحوار
الملاحظ أن المسودات التي طرحتها الأمم المتحدة، في أثناء مشور الحوار الوطني، اتسمت بالجمود والمناورة، فمن جهة الجمود لم يستجب المبعوث الأممي، برناردينو ليون، للمقترحات الجوهرية الخاصة بتعزيز إجراءات بناء الثقة، وخصوصاً ما يتعلق بالترتيبات العسكرية وسياسة دمج المسلحين. ويعكس مضمون المقترحات غياب ضمانات الوصول إلى حل نهائي، بحيث تكون الحكومة التوافقية “آلية جديدة لتعزيز الصراع المسلح، عبر استمرار تعيينات مجلس النواب” في الجيش، والتي هي، في مجملها، تفرض الصراع المسلح حلاً وحيداً للأزمة السياسية.
ولم تكن مناورات ليون مقصورة على الإيهام بحدوث تغيير في المقترحات، لكنها جمعت بين النصح والتهديد والتغرير، فوفقًا لرواية وفد “المؤتمر الوطني”، كان من المفترض أن تكون جلسة الصخيرات (11 يوليو 2015) لاستكمال المفاوضات. ولكن، تبين أنه تم الإعداد لجلسة التوقيع على المسودة الخامسة، من دون توضيح مسبق، ويبدو أن إستراتيجية بعثة الأمم المتحدة قامت على أن تضييق الخناق على “المؤتمر” سوف يضطره للموافقة، فقد استطاع ليون الحصول على موافقة رئيس حزب العدالة والبناء والنواب المقاطعين لمجلس النواب، وهي تظهر “المؤتمر” طرفًا خارج الإجماع الوطني، وهي إستراتيجية تفكيكية، يتوقف نجاحها على الموقف النهائي لـ”العدالة والبناء”، ومدى مساندته شرعية “المؤتمر الوطني”.
لعل إستراتيجية برناردينو ليون لصياغة أوراق “الحوار الوطني” تقوم على جانبين؛ يتمثل الأول في تثبيت الإطار العام للحوار، وتقديم مقترحات الحوار على عدة مراحل، بدأت بالتوقيع على المسودة الأساسية، وتلتها ملاحق لم يتم إعدادها. وهنا، بدا الغموض والتلاعب واضحًا، ليس بسبب التوقيع على اتفاق غير مكتمل الصياغة، ولكن بسبب قرار ليون “أن الاتفاق صار نهائياً وغير قابل للتعديل في طريقة أقرب للحيل التفاوضية. وكان الجانب الثاني واضحاً في أنه أبدى مرونة في الاستجابة لطلبات مجلس النواب”، وكفى خليفة حفتر عناء المشاركة في جلسات الحوار. ووفق اتجاهات بعثة الأمم المتحدة، سوف يكون مشوار الوصول إلى اتفاق نهائي طويلًا، من دون وضوح مآلات حل الصراعات المركبة، أو تسويتها؛ سياسيًا واجتماعيًا وعسكريًا.
وفي هذا السياق، صدرت مسودة الحوار الخامسة، وفق المقترحات التي حددها مجلس النواب، من دون الأخذ في الاعتبار الملاحظات التي أبدتها الأطراف الأخرى، فقد أقرت، في النهاية، بانفراد المجلس بالسلطة التشريعية، واختيار رئيس الحكومة، في مقابل دور مجلس الدولة مؤسسة وتهميشه منبثقة عن “المؤتمر”، فضلًا عن توسيع دور مجلس النواب في اختيار الحكومة، وعدم إلغاء القرارات الصادرة عنه.
المواقف إزاء التوقيع
لذلك، وقع غالبية أطراف الحوار على المسودة الأخيرة. ولكن، كان لافتًا توقيع “العدالة والبناء”؛ حيث كشف رئيس حزب العدالة والبناء، محمد صوان، أن توقيع الاتفاق يقوم على مبدأي حسن النية وتقديم تنازلات من كل الأطراف “من أجل تحقيق الممكن”، ومن الواضح أن خطة “العدالة والبناء” تقوم على الاستمرار في التفاوض، حتى الوصول إلى اتفاق نهائي. وفي هذا السياق، دعا “المؤتمر الوطني” إلى دعم هذا المسار، بوصفه جزءًا رئيسيًا في الحوار السياسي.
وقد حدد المؤتمر الوطني موقفه من التوقيع على الاتفاق، بأن الحوار السياسي يشكل خيارًا إستراتيجيًا، لكن الإجراءات التي صاحبت التوقيع تخلو من الشفافية، وتؤكد انفراد البعثة الدولية بتحديد مخرجات الحوار، ولم تأخذ بالملاحظات التي أبداها “المؤتمر”، كما أفاد بيان صادر عنه أكد على الخلل في تشكيل وفود الحوار، والتي اتسمت بانتقائية اختيار المشاركين، وغموض معايير وأهداف مشاركة بعض البلديات ومنظمات المجتمع المدني.
تبدو هذه الملاحظات متأخرة، خصوصًا أن تركيبة المشاركين في الحوار صارت مستقرة عبر الجلسات السابقة.
ومن ثم، فإن نجاح ليون، في عزل “المؤتمر” سوف يتوقف على موقف الكيانات المسلحة المنضوية تحت مظلة “فجر ليبيا”، ومدى تماسكها في الاصطفاف حول موقف سياسي موحد. وفي الوقت الراهن، تتزايد فرص استمرار المؤتمر طرفاً رئيسياً في السياسة الليبية. وذلك بسبب الانقسامات المتتالية لفريق الكرامة، وخضوعه للتدخلات الخارجية.
يحضر الجانب الأكثر أهمية في تزايد احتمال الانقسامات داخل الكتلة المؤيدة لـ “المؤتمر”، بعد مشاركة “العدالة والبناء” وأربعة عمداء للبلديات في جلسة التوقيع، حيث تتجه المجالس الثورية والعسكرية لمدن ليبيا لدعم موقف “المؤتمر” والتباعد مع “الإخوان المسلمين”، ما يمثل بداية لتحولات في المواقف السياسية، وخصوصاً بعدما اعتبرت “البعثة الدولية” أن المسودة صارت اتفاقاً غير قابل للتعديل، ما يضعف فرص الأطراف الموقعة في التراجع عن مواقفها.
تحركات موازية
تشير التطورات السياسية الموازية للحوار الوطني إلى تهيئة البيئة السياسية للنتائج المخططة، والتي تقوم على إضعاف دور “المؤتمر الوطني” في المرحلة التالية للاتفاق. وقد شملت تلك التطورات محاولات السيطرة على درنة، وترويج انتشار التنظيمات الجهادية في ليبيا، كما أنه في المنطقة الغربية، تحاول الحكومة المؤقتة (عبدالله الثني) زيادة الأهمية الإستراتيجية لمدينة الزنتان، بإنشاء مطار دولي، كما تسعى الكيانات القبلية التقليدية بعمل تسويات سياسية، يبدو أن هدفها تفريغ الظهير الاجتماعي المؤيد عملية “فجر ليبيا”، فما يحدث من حوارات بين الزنتان ووجهاء بعض المدن يصب في اتجاه تكوين مظلة اجتماعية وسياسية جديدة، لا ترتبط مصالحها بما كانت تعرف بـ “غرفة ثوار ليبيا”، أو المؤتمر الوطني. وهنا، تتضح المعضلة في أن المسار الجديد يمكن أن يضيف أطرافاً جديدة للصراع، أو على الأقل يزيد من الانقسامات داخل المدن نفسها.
ومنذ اندلاع الصراع المسلح، تبدو صعوبة في تمييز السلطات السيادية عن الأجهزة الخدمية، وشهدت هذه الفترة اشتباكات بين أجهزة الدولة، حتى صارت المجالس البلدية تقوم بأدوار سياسية، تتجاوز دور وزارة الخارجية، وتخاطب الحكومات الأجنبية والسفراء، وهو ما يعبر عن تفكك سلطات الدولة وانقسامها، وقد تنامت هذه الظاهرة، بعد مشاركة بعض عمداء البلديات في الحوار الوطني، وطرح صيغة “المجلس الأعلى للبلديات” سلطة تشريعية انتقالية، لكنها لم تلق قبول الأطراف الرئيسية في الحوار.
وبينما تُعقد جلسات الحوار الوطني، تدور صراعات على المناصب العسكرية في المنطقة الشرقية، ولم تقتصر هذه الخلافات على فئة العسكريين، لكنها جرت تحت تأثير القبيلة، حيث تدخلت قبيلة البراعصة لمنع انفراد خليفة حفتر وقبيلة العرفة بالقرار العسكري خارج نطاق بنغازي، وذلك بمساندة “العبيدات”، وهذه الديناميات تكشف عن مدى تشابك العوامل المؤسسية والجهوية في إدارة الصراع السياسي. لم يكن التعقيد بسبب سعي القبائل إلى القيام بدور سياسي يتجاوز دور مجلس النواب، وهي ظاهرة تقليدية في السياسة الليبية، لكن هذا النوع من الخلاف يفرض قيودًا على المشروع السياسي لخليفة حفتر، خصوصًا أنه لم يحقق إنجازًا ما يساعده في تقليل الاعتماد على الدعم الخارجي.
أفق الحوار والعودة إلى دستور 1951
كشفت تجربة الحوار السياسي في ليبيا عن قاعدة مهمة، تتمثل في الإصرار على الوصول إلى نتائج محددة، ما يجعل استمراره يؤدي إلى الإنتاج الغزير للمشكلات والتناقضات. فمن جهة، تتزايد الانقسامات السياسية والاجتماعية. ومن جهة أخرى، تعلن عملية “الكرامة” أنها غير معنية بنتائج الحوار السياسي. لعل المعضلة التي تواجه الحل السياسي تكمن في عدم وضوح أفق لخطة بعثة الأمم المتحدة، لإدارة الفترة الانتقالية أو سياستها لدعم المؤسسات، والتي لم تحقق إنجازاً خلال أربع سنوات، تبنت فيها استراتيجية لإدارة الأزمات، وزاد تدخلها بعد اندلاع الصراع المسلح.
وبالنظر إلى الواقع الراهن، يمكن القول إن المسارات الانتقالية التي مرت بعد فبراير 2011، وصلت إلى طريق مسدود، وليس من المتوقع أن تضطلع الأطر السياسية والدستورية القائمة بتوفير حل، يتجاوز الأزمات المعقدة، والتي تتزايد بمرور الوقت. وهنا، تبدو ضرورة البحث عن إطار سياسي، يتضمن الحد الملائم من التوافقات السياسية.
وهنا، يمكن الرجوع إلى المبادرات السياسية التي طرحت في النصف الثاني من عام 2013، حيث توافقت مقترحاتها على أن العودة إلى العمل بدستور الاستقلال (1951) وتعديلاته اللاحقة لفترة انتقالية، من أربع إلى خمس سنوات، يشكل مخرجاً من حالة الاستقطاب في ذاك الوقت، لكن تفاقم الأزمة السياسية دفع باتجاه إجراء تعديلات مارس/آذار 2014، من دون التوافق على الإطار السياسي الشامل، ما جعل الفترة الانتقالية الثانية امتداداً للفترة الأولى، بكل تناقضاتها وعثراتها.
ساهمت حالة الاستقطاب الشاملة في التوجه نحو الصراع بسرعةٍ، فاقت التوجه نحو الحل السياسي، وبعد هذه التجربة تراجعت الآمال في الوصول إلى الدستور، وقد يشكل العمل على إحياء تلك المبادرات فرصة للخروج من الأفكار التقليدية، خصوصاً وأنها تشكل حلاً محايداً لتصحيح الأوضاع التي ترتبت على انقلاب سبتمبر 1969، وهو ما يمثل الهدف المشترك لثورة فبراير، ويحظى بدعم أطراف سياسية كثيرة في ليبيا.