لا يمكنني أن أفهم أو أتفهم التصريحات الغريبة التي صدرت من بعض قيادات الإخوان في خارج مصر المطالبة بحل الجماعة! فإذا كان الإخوان في الداخل الذين يذوقون القتل والاعتقال والترهيب والتنكيل متمسكين بالمقاومة ورافضين لأي حلول وسط، فما يدفع بعض إخوان الخارج لهكذا تصريحات!
الشيء الوحيد الذي قد يشفع لهذه التصريحات أنها تأتي في إطار التهديد العام وللغرب خصوصا، الذي يعرف جماعة الإخوان المعترف بمنهجها الوسطي غير العنيف، الأمر الذي جعل الجماعة غير مصنفة كجماعة إرهابية في الغرب، حتى مع الضغوط السعودية إبان الملك عبد الله! والآن عاد سفير الاتحاد الأوربي ليؤكد على ذلك عقب اغتيال النائب العام في ندوة في القاهرة.
التهديد الضمني من هذه التصريحات – الذي ربما يكون مقصودا – أن للإخوان أعضاء عاملين لهم دوائر انتشار يقدرون بالملايين، وإذا افترضنا أنهم مليون عضو فقط، فمن الطبيعي أن هؤلاء الأعضاء لن يذهبوا إلى بيوتهم بعد أن غرس في نفوسهم طيلة عقود أهمية العمل الجماعي لخدمة دين الله.
وفي ظل القمع والقتل والاعتقال على الهويةالذي يحدث في مصر والتصفيات الجماعية التي بدأت تحدث في البيوت، فمن الطبيعي أن هؤلاء الأعضاء سيتجهون يمينا، لجماعات تحمل أفكارا أكثر راديكالية، ولا تؤمن – حسب وصفهم – بالإسلام السياسي الـ “سوفت” الذي مثله الإخوان، بل بالإسلام الجهادي الذي يكفر الحاكم ومن سكت عنه ومن ثم يكفر المجتمع …إلخ.
ترى ماذا يكون الحال لو انضم 10% فقط (100 ألف عضو) من هؤلاء إلى الجماعة الإسلامية في مصر، أو إلى ولاية سيناء، أو إلى داعش والقاعدة في العراق وسوريا وليبيا؟؟
وإذا كان 300 جهادي فعلوا في الجيش ما فعلوا يوم الأربعاء الماضي، فماذا لو تضلعف هذا العدد ألف مرة؟؟ وهل يا ترى بعد كل هذا يقول قائل أن اعتصام رابعة – الذي كان لا يقل عن 100 ألف بأي حال – كان مسلحا؟؟
جماعة الإخوان باقية إن شاء الله.. ولا مجال للحديث عن الحل، اللهم إن كان من باب التهديد، أما غير ذلك، فليقل خيرا أو ليصمت.
***
لكن ليس معنى أن الجماعة باقية، أنها مستمرة بذات النهج القديم! القاصي والداني جماعة الإخوان كانت تعاني من مشكلات عميقة ، والقاصي والداني أيضا يعلم أن جماعة الإخوان منذ الانقلاب تنتهج نهجا جديدا، يتم فيه تمكين الشباب واستيعاب الكثير من الطاقات التي كانت مهدرة.
ليس خفيا أن الجماعة الآن تعمل تحت الأرض بنهج جديد وبتكتيكات جديدة، تتواكب مع الوضع الأمني القاسي الذي تمر به الجماعة، وسيكون إحدى نتائج ذلك إن شاء الله أن تكون ردود أفعالها غير متوقعة، كما سيكون عنصر الزمن في صالح الجماعة، التي لا يمر شهر عليها إلا ويحرز أفرادها تقدما في إتقانهم لما يقومون به من إرباك وإنهاك للسيسي، انتظارا للحظة الحسم، غير عابئين بمحاولات السيسي المستمرة لوصفهم بالإرهاب وبعمليات القتل التي يصطنعها لإلصاقها بهم!
وعند التعامل مع هذه الأمور العظيمة، يجب استحضار سنن الله عز وجل التي أكد الإمام حسن البنا على ألا نصادمها. فالجماعة تتصدر لقيادة العمل الإسلامي في مصر، بل هي بلا منازع أكبر جماعة إسلامية في العالم، وهذا يتطلب مقومات خاصة إذا أرادت النجاح إن شاء الله.
لقد ثبت بمرور الاحداث أن الجماعة في مصر كان بها خبث كثير، خرج منها بفضل الله عز وجل بالتدريج. فمن كان يظن أن هذا الحقد والشر يملأ قلوب قيادات تاريخية في داخل الجماعة كان بعضهم أعضاء في مكتب الإرشاد ونائبا للمرشد وعلى بعد صوت واحد من أن يكون المرشد العام للجماعة!!
إن ما حدث في السنوات الخمس الأخيرة أفرز تمايزا غير مسبوق داخل جماعة الإخوان المسلمين، وأخرج من كان فيها عضو مكتب إرشاد أو نائبا للمرشد وهو أقرب إلى العلمانية وإلى الديكتاتورية من كثير من عموم المسلمين. وهذا فضل كبير من الله على الجماعة.
لكن هناك نوع آخر من التمايز تحتاج إليه الجماعة الآن أكثر من التمايز السابق، وهو التفريق بين من يخلص للفكرة ولكنه لا يصلح لتحمل عب المسؤولية، ليس لأنه سيئ، ولكن لأنه مع خالص الاحترام لا يصلح لذلك!
ففي الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم وأحمد عن أبي ذرٍ رضي الله عنه، قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَىَ مَنْكِبِي. ثُمّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرَ إنّكَ ضَعِيفٌ وَإنّهَا أَمَانَةٌ، وَإنّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلاّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقّهَا وَأَدّى الّذِي عَلَيْهِ فِيهَا.
ومعنى الضعف المذكور في الحديث هو العجز عن القيام بوظائف الولاية. قال النووي رحمه الله: هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يشكك في إيمان أبي ذر، ولا في إخلاص نيته، لكنه يشكك في أهليته لهذا المكان وهذه المسؤولية، وقد تفهم الصحابي الجليل سيدنا أبو ذر رضي الله عنه الفارق بين هذا وذاك، لدرجة أنه هو نفسه الذي يروي الحديث!
مهما كانت الظروف، ومهما كان حجم المؤامرة التي تحدثت عنها شخصيا طويلا، فإن ما جرى يستدعي وقفة.. وقفة للمراجعة في بعض الشخصيات التي كانت تقود وظلت تقود العمل لعقود. نحن في مرحلة جديدة، ولكل مرحلة رجالها! فلو كان ناديا رياضيا خسر الدوري لأحدث تغييرات في لاعبيه ومديره الفني! فما بالكم بجماعة تريد إقامة شرع الله وإعادة الخلافة الإسلامية مجددا؟؟
لا يجب التعويل على خرافات مثل أن مصر محفوظة لأنها مذكورة في القرآن…إلخ. الأندلس سقطت وما كان يعتقد أحد أن تتنصر ثانية بعد 800 عام من رقع الآذان فيها. وبيزنطة فتحها المسلمون وما ظنت أوربا أنها ستفتح! إذا ظل الأمر على ما هو عليه قد نرى مصر صارت أندلسا أخرى، بدلا من أن نتوجه نحن قدما لتحرير القدس كما تعودنا دائما عبر التاريخ! وللعلم فإن مثال خروج الإسلام من الأندلس هو الذي يضعه تواضروس وكنيسته نصب أعينهم، ويرون أن الوقت مناسب لتكرار هذا النموذج لا قدر الله!
جماعة الإخوان باقية إن شاء الله، لكنها لن تقيم خلافة برضا الأمم المتحدة، ولا بطرح نفسها بديلا عن الحركات الجهادية، لأن شعارها الجهاد سبيلنا! وها هي تسعى الآن للتطور بشتى السبل، ومن يقف في سبيل ذلك التطور آثم شرعا مهما كان إخلاصه، وغني عن القول أن التطور المقصود لا يعني انتهاج العنف أو المبادرة به أو عسكرة الثورة أو المواجهة المفتوحة مع النظام، لكنه يعني ردعه وإنهاكه وإفشاله بكل الطرق والوسائل!