الدارس لمعظم أزمات الإخوان المسلمين، يلحظ خيطًا مشتركًا، وسببًا رئيسًا فيها، وهو: قيادتها؛ فلم تكن أزمتها في قاعدتها، بل غالبًا في كل حدث كانت قاعدتها على قدره، ومحسنة التعامل معه، لكن الأزمة الكبرى في قياداتها، أنها قيادات ليست على قدر الحدث، ولا قدر المسؤولية الملقاة على عاتقها، والإخوان في ذلك هم أبناء المجتمع، فليست أزمتهم بغريبة عن أزمة وطنهم ومجتمعهم، فكذلك أزمة المؤسسة العسكرية في قياداتها، وأزمة الشعب في نخبته. فليست هناك حجة لأي فصيل سواءً الإخوان، أو القوى المدنية، فكل القوى لدغت من قبل من العسكر، ومع ذلك راح الجميع لمصيره المحتوم مع العسكر.
اتضحت أزمة القيادة في الإخوان بعد ثورة يوليو، خاصة في إدارة الصراع مع قادة العسكر، وذلك في موقف عبدالقادر عودة عندما خرجت الجماهير الثائرة تطالب بعودة العسكر لثكناته، في مظاهرات قصر عابدين الشهيرة، فيخرج عودة ليصرف الجماهير بكل سذاجة سياسية، وهو ما استفاد منه الخميني في ثورته، وصرح بذلك أنه استفاد من خطأ الإخوان مع عبدالناصر، فهل استفاد قادة الإخوان فيما بعد من خطئهم مع العسكر في 1954م؟!! للأسف لا، وكانت أخطاؤهم كارثية.
ثم خرج الإخوان من السجون في عهد السادات، وكان الخطأ الكارثي فيمن يتولى القيادة في الإخوان، وذلك من خلال السبق في الدعوة، وعدد سنوات سجنه، والمفترض أن من يخرج من السجن، لا يخرج منه لقيادة جماعة كبرى كالإخوان، فالمسجون خلف القضبان (نسأل الله الأجر على صبره وثباته، ولسنا في معرض الحديث عن ثباته وسجنه، بل عن مؤهلاته للقيادة)، قد غيب لسنوات عن الحياة، وعن إدارة الصراعات، فهذا يحتاج إلى إعادة تأهيل ليعود للحياة، يحتاج على الأقل لشهور وربما سنة أو أكثر، ليعود لطبيعة فهم الحياة والناس.
وعندما جاءت ثورة يناير، كان شباب الجماعة أسبق من قياداتها في اتخاذ قرار النزول، واضطرت القيادات التماشي مع الصف الإخواني المصر على النزول، ولو تركت قيادة الجماعة إدارة الصراع مع العسكر بعد سقوط مبارك لشبابها، لخطت خطوات هائلة نحو الديمقراطية، وتأسيس نظام حكم قوي في مصر، من حيث التوافق الحقيقي مع كل الحركات السياسية الشبابية، لكن للأسف قيادات كل فصائل الثورة كانت نقطة الضعف، ولست في معرض الحديث عن قيادات الفصائل الأخرى..
لكن للأسف كان سقف قيادات الإخوان السياسي سقفا واطئا (واطيا)، وسقف شبابها مرتفعا، كان الشباب يتحركون على الأرض بخبرة الأرض والواقع، وكان قياداتها تتحرك من داخل مكاتب بعيدة عن الواقع، فأي عقل أو منطق يقول بتولي المهندس خيرت الشاطر مثلا بعد خروجه من السجن، لملفات من أخطر ملفات الجماعة، وقد كان غائبا لفترة ليست قصيرة عن الحياة السياسية، والحياة العامة، وتفاصيلها ومستجداتها، ولم تستفد القيادة الإخوانية بعد الانقلاب من هذه الأخطاء، بل استمرت عليها، ورأينا إصرارا عجيبا على التشبث بقيادة المشهد ممن كانوا سببا في كل هذا الفشل للجماعة.
أعلم أن البعض سيرد كلامي بأنه يحمل قدرا من القسوة على قيادة الجماعة، وأنهم أناس أفاضل، لهم تاريخهم وعطاؤهم الدعوي، أذكر هؤلاء جميعا بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صحابي جليل لا ينكر أحد فضله، وهو معاذ بن جبل رضي الله عنه، فقد قال عنه صلى الله عليه وسلم: “أعلم أمتي بالحلال والحرام: معاذ” وقال له: “والله إني أحبك يا معاذ”، ومع ذلك عندما أخطأ خطأ عاما، في مهمة عامة تخص قيادة الناس في الصلاة، عندما أطال بهم في الصلاة، وشكا منه البعض، قال صلى الله عليه وسلم له متعجبا من فعله: “أفتان أنت يا معاذ؟”.
إن كبرى أزمات القيادة وآفتها في الإخوان، أنها قيادات لا تحترم الصف الإخواني، ولا تحترم عقله، ولا تحترم العمل المؤسسي، فهي تريد الأفراد سامعين مطيعين دون إخبارهم بحقائق الأمور، أو إشراكهم في التفكير لصنع القرار، يريدونهم منفذين فقط، وهذا ما لم تعد عقلية الإخوان شبابا وغيرهم تقبله، دون إجراء محاسبة صريحة لهذه القيادات، جالسة على كرسي الاعتراف داخل الجماعة، ثم بعدها يقرر الصف الإخواني هل تستمر في عملها أم يكتفى بهم في مجلس خبراء يستشارون من حيث أخطائهم في كيفية تجنبها، دون إلزام لمشورتهم؟!
أفهم أن قيادات الإخوان بعد انتكاساتها المتكررة منذ ثورة يناير، أن يمتثلوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: “أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك”. فهل يمسك قادة الإخوان عليهم ألسنتهم، ويسعهم بيتهم الإخواني، مكتفين بدورهم التربوي أفرادا لا مسؤولين، ويبكوا على خطيئتهم، بل خطاياهم التي تحتاج إلى أن يسكبوا بدل الدمع منها دما؟! هل ستحمل الأيام القادمة قواعد الجماعة على الهتاف للعسكر: عودوا إلى ثكناتكم، وإلى قيادات الجماعة: عودوا إلى أُسركم؟!