مسألة “الدولة” كانت وما زالت المسألة المركزية من يوم ما قامت الثورة، دايمًا كان الموقف العملي، مش النظري، من الدولة هو الموضوع الجوهري، ده مش كلام فخم، دي طبيعة الأمور.
فإذا كنت عايز تصلح البلد -وده هدف الثورة- مش معقولة هتصلحها من منازلهم، حتى لو معاك أكبر تنظيم في الدنيا؛ لازم تستولي، بطريقة أو بأخرى، على سلطة الدولة، عشان تستخدمها في الإصلاح، وساعتها ممكن إصلاح البلد كلها يتطلب إصلاح الدولة نفسها، وتبقى القضية: هل إنت عندك القوة إنك تصلح الدولة، ولا مؤسساتها ورجالتها، بتحالفاتهم مع الأغنيا وأصحاب النفوذ، هيرفضوا الإصلاح ويعاندوك؟
وإذا كنت عايز تغير البلد جذريًا، ممكن يبقى مشروعك “هدم للدولة الحالية”. لكن المشروع ده هيبقى مجرد تخريب لو معندكش تصور، عملي، إيه اللي ممكن يحل محل الدولة الحالية كأداة لتنظيم المجتمع وإدارته.
طبعًا ناس زيي، اشتراكيين وأناركيين، ممكن يحلموا بمجتمع مفيهوش دولة (يعني مؤسسة بتقهر الناس بالسلاح وبطرق أخرى، وبتفرض طريقة طبقية لإدارة المجتمع) مجتمع قايم على التعاون بين أفراد أحرار متساوين، وبتديره مؤسسات منتخبة مباشرة وليها طابع غير قهري.
لكنه يبقى هزار إن اللي بيحلموا كده يتخيلوا إن ده أمر بسيط، أو إنه بيحصل من تلقاء ذاته بعد هدم الدولة الحالية.
الدولة الحالية لو اتهدت (مثلا زي ما حصل في العراق لما الجيش الأمريكي الغازي هدها، أو زي ما حصل في ليبيا لما الثورة والحرب الأهلية هدوها) هتبقى النتيجة حرب الكل ضد الكل، يعني خرابة؛ وده لأن هدم الدولة في الحالة دي بيترك مجتمع متناحر بيقطع في بعضه من غير أداة الكبح والقهر اللي اسمها الدولة، فالنتيجة بتكون إن القوى المتناحرة بتشيل السلاح قدام بعضها لحد ما ييجي يوم ويتهدوا ويرجعوا، أو يرجع بعضهم، لبناء دولة من تاني، أو لحد ما ينتصر بعضهم على بعضهم ويبني دولة بتعبر عن مصالحه.
هدم الدولة الحالية بيبقى منطقي، من وجهة نظر الثورة، لما يتخلق أثناء الثورة جنين لشكل تاني للسلطة بره الدولة الموجودة بالفعل، يعني تتخلق مثلا مجالس قاعدية الناس تعتبرها هي السلطة المعترف بيها. ساعتها غالبًا الدولة الحالية والطبقات اللي ليها مصلحة مع النظام السابق هيشيلوا السلاح ضد الدولة الجديدة دي، وهتبقى حرب أهلية برضه. بس الفرق المرة دي إن الحرب بتقوم وفيه دولة ومؤسسات، مش مجرد حزب أو ميليشيا، بيمثلوا الثورة.
المهم، في الثورة المصرية موضوع الدولة كان ورا كل الأحداث. لما قامت الثورة، يعني لما الناس بالملايين نزلت الشوارع ومهديتش ورجعت بيوتها إلا لما مبارك تنحى، كان فيه اتفاق بين كل القوى السياسية اللي ليها صوت مسموع في الشارع إن هدم الدولة الحالية أمر مش مطروح ولا مطلوب ولا مرغوب.
ممكن تقول إن ده كان ليه منطق وسبب؛ ببساطة لأن جنين السلطة اللي لسة متكلمين عليه متخلقش، فمش مطروح الهدم، لأنه مفيش بديل مجالسي قاعدي. والحقيقة إنو مكانش فيه إمكانية لبناء هذا البديل المجالسي. فحتى لو افترضنا جدلا إن قوى سياسية مؤثرة في الشارع طرحت البديل ده، مكانش من المتصور إنو يحصل، وده أمر ليه علاقة بدرجة تبلور وعي وتنظيمات الطبقات الخاضعة، زي العمال والفلاحين وغيرهم، اللي كانوا حتى أضعف من إنهم يظهروا بشكل منظم مستقل أثناء مراحل الثورة المختلفة.
لكن القوى الأكبر في الثورة أصلا مكانتش عايزة ده يحصل، لأنها بالأساس قوى مش ثورية بأي معنى جذري. فمش مطروح أصلا إنها تفكر في إمكانية أو عدم إمكانية هدم الدولة الحالية.
لكن رغم كده، رغم إن القوى الأكبر مش ثورية، فده مكانش معناه بالضرورة إنها تبقى فكسانة كده زي ما شفنا في الواقع.
اللي حصل إن البديل اللي اتبنته معظم القوى الكبيرة نسبيا بعد سقوط مبارك كان: الانبطاح. دي مش غلطة إجرائية، دي مش نتيجة نقص خبرة، دي مش صدفة، دي طبيعتهم.
هنا يكون السؤال: هل مفيش بديل لأقصى اليسار (هدم الدولة واستبدالها بدولة تانية) إلا أقصى اليمين (الانبطاح التام قدام الدولة الحالية)؟
الإجابة لا. كان فيه شيء بين الاتنين، مش شيء واحد، لأ، أشياء.
الانبطاح معناه القبول التام بسلطة الجيش اللي حل محل مبارك على رأس السلطة، رغم إن الجيش في الحقيقة هو الجزء الأبشع من الدولة القديمة، الجزء اللي بيمثل كل بلاويها بشكل صافي، ومش بس صافي، لا ومسلح كمان.
القبول اللي بقصده هو التحبيذ مش الانصياع لواقع مفروض علينا.
يعني ممكن بعضنا يبقى فاهم إن نقل السلطة للجيش كان أمر واقع مش ممكن الفكاك منه يوم 11 فبراير لأن الجماهير كانت عايزاه وبتضغط عشان يحصل، لأنه أصلا مكانش قدام عينيها بديل تاني جاهز وطارح نفسه، ودي قصة أخرى.
لكن إدراك ضرورات الواقع مش معناه عدم السعي لتغييرها لما الفرصة تيجي، وكان مفهوم إنها هتيجي. ده بالضبط اللي عملته معظم القوى الكبيرة في الثورة. أغلب القوى الكبيرة، وكتير جدا من الصغيرة، قبلت الجيش كبديل محبذ ومطلوب ورائع، يعني مسابتش بينها وبين الجيش مسافة نقد حتى.
كان ممكن لو المعارضة المصرية ليها طبيعة تانية يتطرح شكل للسلطة في المرحلة الانتقالية مختلف عن استلام المجلس العسكري للسلطة. فلو من قبل الثورة كان فيه تكوين معارض كبير وطارح نفسه بقوة ومسيطر على الشارع، وكان عنده تصميم إنو يطرح مثلا شكل انتقالي زي تونس أو جنوب أفريقيا أو غيره، كان ممكن ساعتها الجيش بقى بره اللعبة نسبيا، على الأقل كان بقى طرف أضعف بكتير مما شفنا.
لكن المعارضة المصرية مكانتش مؤهلة لده، لأن الأكبر بينها أساسا مكانش عندهم تخيل إن لما يجد الجد ممكن يبقوا على رأس السلطة، في استقلال نسبي عن الدولة القديمة.
القوى الأكبر في المعارضة المصرية كانت مؤهلة أكتر للانبطاح قدام الجيش. النظرية عند بعضهم (زي الإخوان) كانت إن الموضوع بسيط إلى حد كبير: إنو بعد ما مشي مبارك والحزب الوطني، بقية الدولة (بالذات الجيش) لو ريحناها وطمناها هتبقى فلة، وهتدينا مساحتنا نبقى شركاء أصلاء في الحكم، وشوية فشوية هنسيطر بهداوة ونخلق دولة مختلفة.
أما البعض الآخر (زي الليبراليين) فكانت برضه عندهم نظرية شبيهة، وإن كان مركزها هو تطهير الدولة من الفاسدين، مش كمان إدخال رجالتنا في الدولة زي حلم الإخوان، لأن مكانش ليهم تنظيمات أو تصورات أيديولوجية غير الكفاءة الإدارية تخليهم يفكروا كده.
المهم بدأ الانبطاح. وخد شكل التسقيف للجيش مش الضغط عليه. والأطرف إنو بدأت المنافسة بين معظم القوى المعارضة الكبيرة على التودد للجيش باعتباره بابا اللي لو كسبناه هنكسب كل حاجة.
حتى لما الإخوان، والإسلاميين، زعلوا من الجيش في موضوع وثيقة السلمي اللي بتهدد فرصهم في السيطرة على السلطة، وحتى لما الإخوان زعلوا من الجيش في خناقة الرئيس التوافقي اللي ملقيوهوش، حتى لما حصل ده أو ده كانت الخناقة محسوبة وضيقة، لأن الطرفين – الجيش والإسلاميين – كانوا شايفين إن حلها في الغرف المغلقة بعيد بشكل كبير عن الناس (إلا في مظاهرات محدودة التوقيت منظمة من أعلى بدقة). محصلش أبدا إن الخناقات فتحت باب للانتقال لاستراتيجية تانية غير الانبطاح أمام الدولة القديمة والخضوع لمطالبها ومصالحها.
بل إن الحقيقة إنو خوف الإخوان من فلتان الأمور بره الخطة المرسومة مع الجيش كان أكبر من خوفهم من استبعاد الجيش ليهم نسبيا. كان هدفهم إنهم بس يبينوا للجيش إن استبعادهم ليه تمن كبير، مش إنهم يطوروا استراتيجيتهم في اتجاه استبدال سلطة الجيش الانتقالية بسلطة أخرى. وده جزئيا لأن خوفهم من ركوب القوى المدنية خلاهم يتعاملوا كمتنافسين مع الأخيرين على كسب الجيش (حتى لو بشوية زمزأة)، ده بالإضافة إلى خوفهم من القوى الأكثر راديكالية اللي كانت بتزق في اتجاه تجذير الموقف كله والعودة للشارع. وده اللي بيشهد عليه شتيمتهم في قوى صغيرة جدا كالأناركيين باعتبارهم عايزين يهدوا الدولة.
أما الليبراليين فانبطاح معظمهم كان أكبر من انبطاح الإسلاميين، لأنهم كانوا أصغر وأقل جماهيرية من الأخيرين. وحتى لما زعلوا من الجيش قبل الانتخابات الرئاسية في 2012، ده كان زعل الحبيب اللي زعلان إن حبيبه هجره وراح لحد تاني، مش زعل الثوري الرافض لمنطق الانبطاح نفسه.
القوى الأكبر إذن كانت منبطحة قدام الجيش. لكن كان فيه قوى تانية كانت مش منبطحة، بشكل كلي أو جزئي.
غير المنبطحين بدرجة أو بأخرى كانوا: البرادعي، حازم أبو إسماعيل، القوى الثورية الصغيرة (6 أبريل والاشتراكيين الثوريين وقوى أخرى أصغر وأفراد)، والتنظيمات الإسلامية الجهادية.
التنظيمات الجهادية طبعا بره اللعبة، دي ليها استراتيجية تانية بره السياسة اللي من النوع ده أصلا.
القوى الثورية الصغيرة كانت بتقطع في بعض ومش موحدة وأصغر من إنها تؤثر، وكانت إلى جانب إنهاكها في تقطيع بعض، بتتخبط بين سياسات أحيانا قصوية وأحيانا انبطاحية، وفي كتير من الأحوال كانت بتتذيل القوى الأكبر اللي على يمينها.
البرادعي وأبو إسماعيل طبعا، كل بطريقته المختلفة جدا عن التاني، وكل بجمهوره واستراتيجياته المختلفة جدا عن التاني، كانوا نماذج للتذبذب وسوء التقدير والإدراك “للحظة الفارقة”.
صوتهم بالتأكيد كان عالي، وكانوا الأكثر ظهورا في رفض مواقف الجيش في لحظات بعينها (مش كل اللحظات).
لكن قطيعتهم مع الجيش مكانتش كاملة. التذبذب فضل موجود.
البرادعي، المحسوب على القوى الديمقراطية، ارتكب أخطاء قاتلة، منها إنو اتأخر في تأسيس حزبه، يعني اتأخر في تشكيل قوة منظمة للتعبير عن تياره في الثورة، ولما أسسه عمل خلطة معفنة بتضم ناس معفنة، وكل ده نابع من عنجهية شخصية ومن رغبة عارمة في لعب دور غاندي في واقع مبيطرحش على اللي هيحاول يلعب الدور ده إنو يكون أكتر من شكوكو. والنتيجة إن انسحابات البرادعي من السياسة كانت مسخرة لا أكثر، مسخرة لا تبني تيارا، بل تضعفه وتخرجه من الساحة. انسحاباته كانت أداء واحد مش مصدق في الديمقراطية فعلا، لأنه مش بيفكر انطلاقا من احتياجات ومواقع الجماهير.
أما حازم أبو إسماعيل، فهو اللي بينطبق عليه تحليل جرامشي عن الحركات “القيصرية” أكتر من غيره. يعني هو اللي بينطبق عليه الفكرة اللي بتقول إنو في لحظات الاضطراب السياسي الكبرى بتظهر، كما لو من العدم، قوة سياسية بتكبر بسرعة الصاروخ، بتطرح استراتيجيات ربع ناضجة ومتبلورة، وذات طابع قصوي، وليها ضجيج عالي، وفيها نزعات فاشية، كحل للأزمة المستحكمة.
لكن تذبذب أبو إسماعيل، وأراجوزية شخصيته، وقصر الوقت، مسمحوش لهذا الهتلر المجتمل، أو ربما الخوميني المحتمل، إنو يوصل لأكتر من إنو يتبخر ويختفي تقريبا لما أوراق ترشحه للرئاسة اترفضت.
المهم هنا إن القوى اللي كان ممكن تضغط وتنقل الوضع نقلة (حلوة أو وحشة) بره إيدين المنبطحين، وقبلهم الجيش، كانت غير مؤهلة لأي من هذا.
الغريبة فعلا في سياق كل ده إن زخم الثورة كان كافي إنه يخلق حركة معارضة تحت شعار “يسقط يسقط حكم العسكر” بدءا من أواخر 2011. ده دليل على إن الناس الشوارع كانت أوعى وأكثر نضالية وتضحية من كل قياداتها السياسية. وده رغم تراجع حركة الشارع بشكل ملحوظ.
الناس في الشوارع، محتفظة بزخم ثوري لا بأس به رغم كل اللخبطة والانحسار، ضجت من الجيش، وقررت إنو لازم ينزاح، بشكل ما، حتى نتقدم إلى الأمام. وساعتها ابتدى شعار يسقط حكم العسكر اللي رفعته القوى الثورية المدنية الأصغر يكسب أرض.
اللي حصل ساعتها إن معظم المدنيين (اللي قلبوا ضد الثورة بعد كده) رفعوا الشعار ده غضبا من الجيش اللي واقف مع الإسلاميين. أما الإسلاميين فسابوا مساحة للشعار ده، واستخدموه، كرافعة لمطلبهم بتعجيل نقل السلطة، ليهم طبعا.
الفكرة كانت: إزاحة العسكر عن السلطة المباشرة هتخلينا – إحنا الإخوان والسلف – في وضع يمكننا من تنفيذ خطة دخول الدولة.. مهمتنا بقى إننا نبان الأحرص على مصلحة الوطن بالطبطبة إلى أقصى حد على الجيش والشرطة، كطريقة للنفاذ إلى الدولة ومحاولة السيطرة الهادئة البطيئة.
يعني باختصار: حركة يسقط حكم العسكر اللي طرحت مسألة الدولة عمليا من جديد لم تنجح في أكتر من إنها تدي فرصة لأكبر المنبطحين وأهمهم (الإخوان) إنو يسرع خطته الأصلية لنقل السلطة إلى نفسه.
نظريا كان ممكن حركة يسقط حكم العسكر تعمل حاجات أكثر جذرية من اللي حصل فعلا (مثلا: حكومة مستقلة نسبيا تجرى الانتخابات بإشرافها، أو سياسات انتقالية اقتصادية وسياسية أكثر جذرية)، خاصة وإن الإسلاميين كانت أسهمهم بدأت تنزل.
لكن مكانش فيه حد مؤهل يدفع الحركة للأمام. فلا القوى الثورية اتحدت، ولا البرادعي كان بيعمل أكتر من إنو بيلعب دور الضمير الزائف، ولا حازم صلاح أبو إسماعيل كان مستعد يطرح أفق تاني (بغض النظر عن مسألة قبولنا لهذا الأفق أو رفضه) لأن ده كان يقتضي منه من الأصل بناء استراتيجية استقلال عن باقي الإسلاميين تمكنه من اتخاذ مواقف تعارض مصالحهم الرئيسية كما رأوها في تلك اللحظة.
وفاتت اللحظة، ورجعنا تاني لمربع الانتخابات والاستفتاءات الآمن نسبيا. وبقى ملعب التغيير هو الصندوق الانتخابي.
وفي الانتخابات ظهر كل من ضعف وقوة معسكر الثورة. فبرغم الإنهاك الشديد في حركة الجماهير، إلا إن اللي صوتوا للثورة كانوا كتار جدا.
اللي أقصده باللي صوتوا للثورة، هو الناس اللي ادت صوتها لمرشح ما اعتقادا منها إنو هو اللي هيقدر يدفع الثورة للأمام من خلال إحداث تغيير واضح وعميق في الدولة وفي سياساتها لمصلحة عموم المصريين وتحقيق شعار “عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية” (مثلا إصلاح الشرطة والإعلام، مثلا تغيير السياسات الاقتصادية، إلخ).
ففي الجولة الأولى جزء ضخم من اللي صوتوا لحمدين، وجزء مهم من اللي صوتوا لأبو الفتوح كان هدفهم الانتصار للثورة، ودول ملايين ونسبة كبيرة من المصوتين.
لكن المفارقة كانت إن الكتير اللي صوتوا للثورة مكانوش في وضع يمكنهم من الانتصار لموقفهم، وده لأن العدد الكبير مكانش مندمج في تيار واضح وقوي وليه تأثير. العدد الكبير كان موزع ومشتت إلى حد لا يمكنه من نقل تأثيره السلبي (إن الباقيين يعملوا حسابه)، إلى تأثير إيجابي (إنو يبقى صاحب خطة ومشروع ممكنين عمليا).
الثورة كان عندها قوة محتملة، تبددت بسبب الافتقار إلى قيادة معبرة عنها بشكل موحد وحاسم. بس على أي حال لحظة الانتخابات كانت لحظة متناقضة: الشارع كان فيه قوة ثورية، بس بتنحسر، وطاقتها متجهة أصلا إلى التغيير الانتخابي كأمل أخير، وده كله كان بيصعب الموقف فوق صعوبة تفتت التيار الثوري،
لما وصل الإخوان للسلطة بقت كل العيون مركزة على التغيير من داخل الدولة. الناس في الشوارع – حتى الثوريين منهم – قالوا اللي حصل حصل، يا رب بقى أحلامنا في التغيير تحصل على إيدين الناس دي، حتى لو هما مش عاجبينا.
وطبعا إحنا عارفين إيه اللي حصل: الإخوان توددوا إلى الجيش والشرطة عشان يرضوا عنهم، ومغيروش ولا صلحوا حاجة تقريبا، لكن حاولوا يحصلوا على قطمة من كعكة السلطة، والنتيجة إنهم أغضبوا الكل، حتى السلفيين حلفاءهم، ولما جه الإعلان الدستوري، اتحرك الشارع على خلفية فشلهم وضعفهم، خاصة بسبب تحريض الثورة المضادة الواسع ضدهم.
بقى فيه إذن حركة كبيرة ضد الإخوان. حركة اختلط فيها الحابل بالنابل. الثورة والثورة المضادة. ودي كانت أكبر مهزلة في تاريخ الثورة المصرية. فبعد ما كانت القوى الثورية الصغيرة نسبيا، والبرادعي، بيغلطوا غلطات كبيرة، دخلوا (كلهم تقريبا ما عدا استثناءات قليلة قوي) في مرحلة الجرائم السياسية الفظيعة، بقبولهم التحالف مع الدولة والفلول ضد الإخوان في صورة جبهة الإنقاذ.
الحركة دلوقتي بقت مش لدخول الدولة وإصلاحها من الداخل.. لا.. الحركة بقت لاستعادة ما هدم من الدولة القديمة.. حركة في الاتجاه العكسي للثورة.
هذا لم يكن حتميا. ده قرار خدته القوى اللي خدته: خده البرادعي وحمدين بالأساس. قرار مضمونه إننا محتاجين جبهة مع الدولة اللي ثرنا عليها عشان نخلص من الخطر الأكبر منها اللي اسمه الإخوان.
القرار ده حرم الثورة من فرصة تاريخية لبناء حركة ثورية في الشارع. القرار ده سلم الحركة اللي كان ليها إمكانية ثورية إلى الثورة المضادة.
طبعا فيه ناس بتقول إن جبهة الإنقاذ كانت ضرورة لأنه لو كان البرادعي وحمدين قرروا ما يمدوش إيديهم للدولة والفلول كنا إما شفنا انتصار الإخوان ودي أكبر كارثة، أو بقينا سوريا والعراق.
وردي إن موضوع انتصار الإخوان ده مضحك. مكانش ممكن الإخوان ينتصروا. والسبب بسيط: الشارع كان ضدهم، وشعبيتهم كانت بتنحسر جدا، دي نقطة. النقطة التانية: أصلا الثورة كانت وصلت لمرحلة إنهاك كبير مخلية فيه كتلة كبيرة من الحرافيش والطبقات الدنيا ضدها مباشرة، يعني ماشيين ورا الثورة المضادة، وضد الإخوان. فالوضع كان مقفل خالص في وش الإخوان.
فاللي كان هيحصل لو اتخلقت حركة ثورية كبيرة نسبيا كان هيبقى وجود تيار آخر مؤثر، مش ممكن يؤدي إلى تحقيق نصر للإخوان على أي حد، بالذات على دولة مدججة بالسلاح ابتدت تستعيد ثقتها وماشي وراها ناس كتير.
لو كان فيه حركة ثورية كبيرة نسبيا ومنظمة على خلفية الغضب من الإخوان وفشلهم، ولو كانت الحركة دي رفضت التحالف مع الثورة المضادة، كان هيبقى فيه أفق تاني واحتمالات تانية من الأساس. ساعتها الشارع الثوري كان هيبقى له صوت في المسارات المقترحة والمختارة. وده كان ممكن يسمح بكبح الجيش والإخوان معا، أو كان ممكن يفرض سيناريو حكومة انتقالية مستقلة نسبيا وانتخابات مبكرة، أو حتى على الأقل، لو كان التيار ده أضعف، يكبح الطرف الأكثر قوة بشكل نوعي – الجيش – ويمنعه من إتباع استراتيجية الإقصاء التام.
وجود القوة الثورية المستقلة كان هيخلق تفاعلات تانية، مش ممكن نتخيلها بشكل كامل دلوقتي، لكن الأكيد إنها كانت هتبقى تفاعلات أفيد للثورة.
أما القول بإن هذه القوة لو وجدت فده هيكون سبب في اندلاع حرب أهلية وانهيار الدولة، فمعناه عندي تهديدي مش أكتر. يعني كما لو كنت بتقول: لو متحالفتش مع الثورة المضادة، لو اتحركت كقوة ثورية مؤثرة ومنظمة، في اتجاه منع الثورة المضادة من الانتصار الساحق، فالثورة المضادة ستنتقم بإشعال حرب أهلية.
هي ملهاش معنى تاني. لأن الإخوان لو وجدت قوة ثورية مؤثرة كانوا هيبقوا معتمدين تماما عليها، وهم الأضعف، في بقائهم، وبالتالي كانوا بالقطع سيميلون إلى إرضائها، خاصة وأنهم كانوا سيكونون في وضع غير صفري زي ما حصل. أما لو كانوا قرروا يفعلوا غير المتوقع تماما، أي لو كانوا قرروا الهجوم على الطرفين المقابلين (الثورة المضادة والثورة)، كان ده هييبقى عمل انتحاري يؤدي إلى نهايتهم بكل الطرق والوسائل.
إذن فسيناريو سوريا والعراق وهم.
لكن اللي مش وهم هو الكلام عن حجم القوة الثورية اللي كانت ممكنة: هل كانت هتبقى كبيرة بما فيه الكفاية عشان تلعب الدور اللي أنا بتكلم عليه، ولا لا. إجابتي إنو حتى في أسوأ الظروف، لو كانت أضعف من إنها تلعب الدور ده، كان إيه اللي هيحصل يعني؟ ولا حاجة. اللي حصل بالضبط. مش أسوأ أكيد. بل أحسن بالقطع، لأن وجود قوة زي دي، حتى لو أصغر من التأثير على المسار الأساسي للأحداث، لكن كبيرة بما فيه الكفاية لتكون موجودة على المستوى القومي، كان هيكون أداة بناء لما بعد، للمرحلة الصعبة اللي عايشينها دلوقتي بدون بديل حقيقي.
المهم في كل ده إن فشل القوى الثورية ونصف الثورية في خلق قطب ليه شأنه في الصراع، مرة ورا مرة، الفشل المتكرر ده، الفشل المتراكم ده، وصل الثورة والبلد لنقطة إن الجيش، تاني، أصبح هو البديل الوحيد. فميصحش أبدا تدلس على الناس وتقول إن الفشل ده مش مسئول عنه حد وإنو قدري. لا هو مش قدري أبدا.
التفاف أعداد مهولة حوالين الجيش في صيف 2013 مكانش جاي من العدم، مكانش بداية، ده كان محصلة ونتيجة لفشل المعارضة المصرية الثورية ونصف الثورية في طرح نفسها كقطب في الصراع، حتى بمستوى تونس أو جنوب أفريقيا، سيبك من مستويات الثورات الكبرى في التاريخ الحديث.
لما المعارضة الديمقراطية والثورية قررت إنها متبقاش بديل، ولما أخطأت أخطاء فادحة، ثم أجرم معظمها جرائم واضحة، حصلت سلسلة من التفاعلات وصلت الثورة لمرحلة المعادلات الصفرية.
السؤال الصفري بتاع: “عايزين تحافظوا على الدولة من خلال التحالف مع الفلول والجيش والشرطة، ولا عايزين تبقوا زي سوريا والعراق؟”، متطرحش أبدا من تلقاء ذاته، ده اتطرح فقط لما بديل الإصلاح الجذري أو حتى نصف الجذري للدولة من منطلقات ديمقراطية أو ثورية بقى مش موجود بفعل فاعل.
وحتى في لحظة زي دي واجب القوى الثورية الهامشية غير المؤثرة المتبقية إنها ترفض ركوب مركب الثورة المضادة، واجبها في الحقيقة هو الاشمئناط، لأن الاشمئناط ساعتها هيبقى هو الراية الوحيدة اللي بتشاور على مستقبل بعيد ممكن بعد ما تم إهدار حاضر ومستقبل قريب كانوا ممكنين.
المصدر: الصفحة الشخصية للكاتب على الـ”فيس بوك”