على المواطن العربي أن يواجه هذا السؤال بأكبر قدر ممكن من الشجاعة والصراحة والوضوح، على الرغم من حساسية الموضوع، وبعيدا عن المزايدات، والإسقاطات ذات التوجهات السياسية المختلفة، لأن الأمر يتعلق بمستقبل الشعوب، ومقومات الدول العربية، وهي تمر بأخطر مراحل التحول في تاريخها المعاصر، خصوصاً دول المركز التي كانت تعتز دائماً بجيوشها الوطنية، وتعتبرها الركيزة الأساسية لبنيان الدولة، ورمز سيادتها، وموطن عزها وفخرها، فالجيش هو الدرع والسيف للوطن. وحتى نكون أكثر دقة، ينعكس السؤال على تلك الجيوش التي تعرضت بالفعل لتلك المواقف المخزية، أي الفرار، أو التشرذم، أو التحول إلى ما يشبه المليشيات المسلحة، وهو بالضبط ما حدث ويحدث لجيوشٍ، كانت يوماً جيوشا تكلف تسليحها وتجهيزها وتدريبها وإعدادها مليارات الدولارات، دفعتها الشعوب راضية، بل وسعيدة وفخورة، كما هو الحال في جيوش العراق، وسورية، وليبيا، واليمن، وهي الجيوش التي تعرضت، حتى الآن، للاختبار الميداني.
فرّ الجيش العراقي ويفر أمام ميليشيات تنظيم الدولة، داعش، تاركا معداته الثقيلة وذخيرته، ناجيا بنفسه. هذا شاهده العالم بالصوت والصورة، في الموصل، قبل نحو عام، وتكرر أخيرا في الرمادي. وتخرج علينا وكالات الأنباء بالخبر يقول (… استيلاء ميليشيات تنظيم الدولة على الرمادي، بعد فرار قوات الجيش العراقي..). والمشهد نفسه شاهدناه في الرقة في سورية، أيضا منذ نحو عام. وتكرر أخيرا في تدمر، والخبر نفسه، سقوط المدينة في يد تنظيم الدولة، وفرار قوات الجيش. والأمثلة في سورية والعراق عديدة، أصابت مراقبين متخصصين كثيرين بالدهشة.
وإذا انتقلنا إلى اليمن، نجد النموذج الثاني، وهو نموذج التشرذم القبلي، وتعدد الولاءات، ما بين وحدات تسلم أسلحتها وعتادها، طائعة، إلى جماعة أنصار الله الحوثي، ووحدات تخرج تماماً عن سلطة الدولة وحكومتها التي كانت قائمة، وتخضع لمن اعتبرته زعيماً لها، وهو الرئيس الذي كان، علي عبد الله صالح، ووحدات قليلة ببعض قواتها تعلن ولاءها للرئيس الانتقالي في مقره في الرياض. هكذا تلاشت الهياكل القيادية للجيش، وتشرذمت وحداته، فر من فر، وهام على وجهه من هام، وبقي من بقي يعمل لحساب انتمائه القبلي، ومصالحه المادية، ولم يعد هناك جيش بالمعنى الاحترافي؟
النموذج الآخر لجيش تكلف المليارات من الدولارات هو الليبي، أو كتائب القذافي التي وظفها القذافي ليس للدفاع عن الوطن الليبي. ولكن، للتصدي لجماهير الشعب الليبي الذي تجرأ بالثورة على سلطة الأخ العقيد، وانهارت كتائب القذافي تحت ضربات قوات “الناتو” الداعمة لثورة الشعب الليبي، ثم تشتت إلى مجموعات ومليشيات صغيرة، اتجهت إلى مناطقها العشائرية، وأطلقت كل مجموعة على نفسها مصطلح الجيش، فهناك جيش لخليفة حفتر في طبرق، وهناك جيش للمجلس الوطني في طرابلس، وهناك جيش للقبائل، وهناك أيضاً جيش لداعش، وكلها سبق لها أن فرت أمام القتال الحقيقي، وما زالت تفر.
تلك هي النماذج الحية التي نشاهدها. جيوش تفر، ليس أمام عدو يهدد أرض أوطانها ومقدراتها، لكنها تفر أمام ميليشيات شبه عسكرية محلية، تعمل من مكامن داخلية.
وذكر تلك الجيوش تحديداً لا يعني أي استثناء لجيوش أخرى، ولكن، يعني أن الجيوش الأخرى لم تُختبر عملياً، وربما هذا ما يجعل دولا تتردد كثيراً، وغالباً ستحجم عن زج جيوشها النظامية في أي مواجهات برية مع قوات شبه عسكرية، ذات تنظيمات عصابية، كما الحال في إشكالية الحرب البرية في اليمن.
لماذا تفر تلك الجيوش العربية في مثل تلك المواجهات، على الرغم من التباين الشديد في ميزان القوى لمصلحة الجيوش النظامية؟ وحتى نقترب من الصورة أكثر، نستعيد إلى الذاكرة مشاهد من حرب يونيو 67 المعروفة بالنكسة، عندما انقشع غبار المعارك من مسارح العمليات، وبدأت تتسرب الروايات حول ما جرى، وما كان من انهيار للقوات، وانسحابٍ أقرب إلى الفرار في مواجهة العدو الإسرائيلي، ثم بدأ العدو ينشر الصور، ووسائل الإعلام العالمية تنشر الوقائع وتبثها. تركت تلك المشاهد شعوراً عميقا بالمهانة في نفوس المصريين، وأثارت رغبة عارمة في الثأر من العدو، على الرغم من أن ذلك الانسحاب جاء بسبب واضح، هو انهيار القيادة السياسية والعسكرية، على كل المستويات، مع الخلل الجسيم في الميزان العسكري على مسرح العمليات، وتضارب الأوامر، وفقد الرؤية والهدف، أي أنها كانت هزيمة عسكرية على مسرح العمليات، في مواجهة جيش متفوق تنظيماً وتسليحاً.
ولعل مواجهة ودراسة وتحليل الهزيمة وأسبابها بشجاعة، كان من أهم أسباب الإنجاز العسكري الميداني في أكتوبر 1973، لرد الاعتبار للمقاتل المصري، ولعلنا نجد النموذج نفسه في الجيش السوري في ذلك الوقت، وكانت الروح نفسها سائدة في مختلف الجيوش العربية أيضاً، حدثت الهزيمة العسكرية فشعر الجميع بالخزي، والرغبة في الثأر القومي.
أما جيوش اليوم، تفر، فتتعالى هتافات مستبشرة بالنصر، ولا أحد يشعر بالخزي ولا بالعار، ولا أحد يطالب بالثأر. وأكثر من ذلك، نرى الدول تتقوّض، وتنهار، بجيوشها النظامية، وتقوم على أنقاضها دويلات ومليشيات.
قد تكون الإجابة أبسط مما يتصور كثيرون، إنها تكمن في التغيير الجوهري الذي حدث في البنية القيمية والعقيدية لتلك الجيوش، والتي تحكم منظومة القيم الوطنية والعقائد العسكرية التي تنعكس على إرادة القتال لدى أي جيش، وإرادة القتال لدى الجيش هي مجموع إرادات القتال لدى أفراده، وليست مجرد قرارات وأوامر قتال تصدر من القيادات السياسية، أو العسكرية، لأن الحرب يقررها القادة السياسيون، ويخطط لها ويديرها القادة العسكريون. ولكن، من يخوضها المقاتلون، وهم، في النهاية، من يقررون في لحظة المواجهة، هل هناك ما يستحق أن يتعرضوا للموت من أجله أم لا؟
ومنظومة القيم الوطنية والعقائد العسكرية التي ترتكز عليها الجيوش العربية كانت الدفاع عن الوطن ومقدراته ومقدساته ضد أي تهديد يتعرض له من عدو يستهدفه براً وبحراً وجواً، أي باختصار حماية الأرض والعرض، والأمر هنا شديد الوضوح، خصوصاً في ظل عدو واضح، لا لبس فيه، هو العدو الإسرائيلي ومشروعه الصهيوني.
وكان المواطن العربي يلتحق بخدمة جيش بلده، وفي يقينه أنه سيقاتل، عندما يتطلب الأمر ذلك، في إطار تلك القيم والعقائد، وحتى نكون أكثر وضوحاً، فإن المواطن في الجيوش العربية، عندما يجد نفسه خارج تلك المنظومة القيمية تماماً، بعد أن تم استبدالها، من دون أي اعتبار له، بمنظومة قيمية مختلفة، تعتمد على ركائز ثلاث: محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة والحرب الأهلية. لذلك، عندما تأتي لحظة القرار بالنسبة لذلك المواطن، يكون قراره الفرار.
هل كان محمد علي عبقرياً عندما أدرك تلك الفكرة، منذ أكثر من مائتي سنة، وهو يسعى إلى إنشاء جيشه الجديد، فكرة أهمية وجود منظومة قيمية وعقائدية، تدفع المواطن للقتال والاستعداد للموت، فأطلق على التجنيد مصطلح الجهادية، وسمى الوزارة المعنية بالجيش نظارة الجهادية؟