سطحية تعاملنا مع السياسة تضيع منا فرصا كثيرة للتعامل مع الواقع، وفي الأمور المصيرية يصبح التسطيح نوعا من الخيانة.
أحد المواضيع الشائكة والحساسة والمصيرية في ذات الوقت هو الحديث عن عودة الدكتور مرسي. وهو كلمة لها مدلولات مختلفة حسب تفكير وميول صاحبها. بل أصبح مدلولها يختلف بالهدف الوقتي منها، وهنا ساحاول أن أحصر وأشرح مدلول الكلمة على الساحة السياسة بقدر المستطاع.
هناك فريق بغض النظرعن عددهم أو مرجعيتهم يرى أن مدلول كلمة “مرسي راجع” هو عودة كاملة للرئيس مرسي حاكما لمصر مرة أخرى على أن يحاكم من قاموا بعزله، بل ويكمل مدته كاملة، وهم فريق موجود، لكن ينحصر مع الوقت، ليس لأن موقفهم السياسي يضعف ولكن لأنهم كل يوم يزدادون تعاملا بالمنطق، وتجنيبا للعاطفة أكثر. ولهم مني كل التقدير والاحترام ولا أعيب عليهم أي أمر، سواء في موقفهم الأصولي في طلب رجوع الرئيس مرسي أو في موقفهم المتراجع.
يقوم موقفهم على أن الانقلاب فعل مشين في الحياة السياسية وأن الحق لابد أن يعود إلى “صاحبه”، وأن الشرعية واجبة التنفيذ، وهي أمور ذات منطلقات حقوقية قانونية سليمة، ولكن تفتقر لمرجعية سياسية، وهي الأهم خاصة أن المنصب الذي نتحدث عنه هو منصب سياسي من الدرجة الأولى وليس منصب حقوقي.
لا أدعي أن الدكتور مرسي ليس له حق سياسي، ولكن أريد أن أوضح أن السياسة تخضع للقوة عندما يحتدم الصراع. للأسف هذا هو المنطق الذي أراه أحد الثغرات التي وصل بها الانقلاب للسيطرة وأغفلها سيادة الرئيس ولم يتعامل معها بالقوة المطلوبة، فحتى أعمق الديمقراطيات يوجد بها فرق عسكرية تدين بولاء منقطع النظير لمنصب رئيس الدولة، وهو أمر لا نجده في مصر في تجربتي الانقلاب التي تمت عام 1952 و 2013، كلا التجربتين كان الحرس الملكي والجمهوري لم يقوما بدورهما، وبالطبع بقية فصائل الجيش لم تكن داعمة للدكتور مرسي، والاعتماد على مليشيات تنظيمية من الجماعة أو من المتعاطفين ملجؤه احتراب أهلي وليس الإبقاء على حق الشرعية.
ليست القوة هي السبب الوحيد لعدم منطقية رجوع الدكتور مرسي بأن يكمل مدته، ولكن أيضا لا نستطيع إنكار المصريين الذي قبلوا دعوة الحشد يوم 30 يونيو – حتى مع اعترافنا أنها مؤامرة أو خطة مدروسة للحشد – خاصة في ظل معرفتنا اليقينية أن الدكتور مرسي قد نجح في الانتخابات بنسبة 51% وبفارق 800 ألف صوت فقط، وهو مؤشر مهم على أن الذين تم حشدهم كانوا بالفعل غير قابلين لسيادة الرئيس وعن صدق هناك فصيل مهم كان يطالب بانتخابات مبكرة، وزاد عليهم آخرون فقدوا ثقتهم في سيادة الرئيس وآخرون فقدوا ثقتهم في أنه يمثل مطالب ما بعد ثورة يناير.
فكيف وبأي منطق سيدير بلدا بهذا الرفض. بصراحة أي حديث عن ديمقراطية أو سيكلوجية الجماهير أوعن المؤامرة لن يمنطق أن عودة الرئيس كامل الشرعية مرفوض الآن، وإذا أراد أن يعود فعلا عليه أن يعيد اختبار تلك الشرعية بين المصريين.
هناك فصيل آخر يتحدث عن عودة الدكتور مرسي بشكل رمزي وبصلاحيات منقوصة لمدة من الوقت تجري فيها خارطة الطريق في إطار من الشرعية، وهو حل أكثر منطقية، مع العلم أنه أحد علامات انكسار الانقلاب بكل صراحة وأيضا ضمانة لعدم تكراره في المستقبل، وإعادة ثقة في الاستحقاقات الانتخابية التي تمت من بعد الثورة، وإعادة الاعتبار للطرق الديمقراطية في إدارة العملية السياسية.
ولكن هناك عراقيل كثيرة في هذا المشهد، أولها عراقيل نفسية عاطفية سطحية أيضا غير منطقية، لا تختلف عن الفصيل الذي يطالب بعودة كاملة للدكتور مرسي، وهي تنحي السياسة جانبا وتشخصن دور رئيس الدولة في صورة الدكتور مرسي الذي ثار عليه الشعب. وأنه كيف يتم عودته للرئاسة ولو نصف ساعة وبأي صلاحيات، كيف ذلك بعد أن ثار عليه الشعب، وكأن التغير السياسي لا يتم إلا بالنزول في الشارع.
ليست فقط العراقيل النفسية لمن ثار على الدكتور مرسي هي العائق في تنفيذ هذه العودة ولكن أيضا كيفية تنفيذ تلك العودة، التي كانت أقرب في أوقات مضت ولكنها لم تكتمل أيضا، عندما طرحت لأول مرة بشكلها المتكامل في ما اتفق على تسميته مبادرة الدكتور العوا بعد الانقلاب بفترة قصيرة، وكان هدفها الرئيس ليس إنقاذ شرعية الرئيس مرسي ولكن شرعية الدولة الديمقراطية المتمثلة في دستور 2012، وتم رفضها بصورة متعالية من فريق الانقلاب.
وهناك فريق يزداد عددا يوما بعد يوم، يرى أن شرعية الدكتور مرسي لا تعني شخص الدكتور مرسي ولكنها حق مرتبط بشرعية رئيس دولة قام جيشها بتنحيته والقبض عليه ثم منعه من ممارسة حقه في إدارة البلد وخروجها من عثرتها.
وهذا الفريق يرى أن الشرعية ليست فردا ولكن حق مؤسسي، يمثله الدكتور مرسي بإرادة شعبية، يمكن أن يفوض من يراه للسعي رجوع وإدارة هذا الحق حتى تعود الدولة للمسار الديمقراطي.
هذا الطرح سياسي وليس حقوقيا أو تشريعيا، أي أن السند التشريعي في الموضوع مفتقد، ولكنه سياسيا له وجاهة ويقلل من الاعتماد على الفرد وفصل الشرعية عن شخص الدكتور مرسي، وهو يمهد الأرض لحل سياسي بعمق يساهم به كل الأطراف.
براجماتيا إن “عودة مرسي” بمدلولها الواسع ليست مطلبا خاصا بفئة معينة، أو عدد من الناس أو فصيل أيدلوجي، بل إنها حل ومخرج وعلامة على سقوط الانقلاب وأحداث ما بعد 3 يوليو 2013. وفي نفس الوقت هي أولى خطوات نحو استعادة الديمقراطية.
ليس في هذه الفكرة أي تعصب نحو فصيل سياسي أو أيدلوجية معينة ولكن وجهة نظر أتمنى أن أجد البديل الذي يحقق نتائجها.