أنهت قوات الجيش منذ أيام عملية إخلاء المرحلة الثانية من المنطقة العازلة على الشريط الحدودي بمدينة رفح المصرية بعمق كيلومتر، ومع انتهائها يكون الجيش قد قضى على تاريخ آلاف السنين الذي شهدته المدينة، واقتلع عائلات من جذورها سكنت وتوطنت في المدينة منذ زمن بعيد.
وﺗﻌﺘﺒﺮ مدينة ﺭﻓﺢ ﻣﻦ ﺃﻗﺪﻡ ﺍﻟﻤﺪﻥ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ، ﻓﻘﺪ ﺃُﻧﺸئت ﻗﺒﻞ ﺧﻤسة ﺁﻻﻑ ﺳﻨﺔ، ﻭﻣﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻐﺰﺍﺓ ﻣﻦ ﻋﺼﺮ ﺍﻟﻔﺮﺍﻋﻨﺔ ﻭﺍلآﺷﻮﺭﻳﻴﻦ ﻭﺍﻹﻏﺮﻳﻖ ﻭﺍﻟﺮﻭﻣﺎﻥ، حيث تقع المدينة في أقصى الشمال الشرقي لشبه جزيرة سيناء على الحدود المصرية مع فلسطين.
ومن معالم المدينة السياحية، شاطئ رفح ومنفذ رفح البري والنصب التذكاري، وكذلك بوابة صلاح الدين في ميدان صلاح الدين، والتي كانت من أهم الأماكن الحيوية بمدينة رفح، حيث إنها هي الرابط بين رفح المصرية والفلسطينية، وقد تم إخلاء الميدان بالكامل في إطار عمليات التهجير القسري، بالإضافة إلى أحياء النور والإبراهيمية والصرصورية، وهي المناطق التي أصبحت حاليًا خالية تمامًا من البشر، ولم يتبق فيها سوى حطام المنازل والتي تم دفن معظمها.
مدينة رفح يسكنها البدو وغالبيتهم من قبيلة الأرميلات ثم قبيلة السواركة، والتي تسكن مناطق جنوب رفح، أما المنطقة العازلة التي تم تهجيرها فغالبية سكانها هم عائلات متنوعة، يرجع أصلها جميعًا لعائلة الشاعر ويعرفوا باسم “الإقلاعية”، وكان قدومهم الأول منذ عام 1690 من شبه الجزيرة العربية، حيث سكن أفراد من عائلة الشاعر مدينة خان يونس الفلسطينية، ثم انتقل عدد منهم إلى رفح سيناء، وامتلكوا عددا من الأراضي الزراعية وهم عائلات “القمبر وأبو حلاوة وأبو عواد”.
وذكر “م.أ القمبز”، من سكان ميدان صلاح الدين، أن “الإقلاعية هم مجموعة عائلات التي تسكن الشريط الحدودي، ويرجع سبب تسميتنا بهذا الاسم أن جدودي عندما جاؤوا من شبه الجزيرة لمدينة خان يونس سكنوا قلقعة برقوق بخان يونس، كما أننا ننحدر من مناطق حضرية عرفت المسكن والحرف في الماضي”.
وأضاف القمبز: “كانت أمي تروي لي دومًا أن حياتهم كلها كانت بفلسطين، فلقد تعلم آبائي بمدارس فلسطينية، وإذا مرضنا نذهب للمشافي الفلسطينية، ومن يعمل يعمل بفلسطين حتى رحلاتهم ونزهاتهم كانت بفلسطين، لذلك لهجتنا تختلف عن لهجة باقي سكان سيناء لتأثرنا باللهجة الفلسطينية”.
وتابع في تصريحاته لشبكة “رصد” الإخبارية “عندما تم الفصل بين رفح الفلسطينية والمصرية كانت هناك بيوت جزء منها بقي في رفح الفلسطينية، ولا يوجد بيت من بيوت الإقلاعية إلا وله خال أو عم أو خالة أو عمة بفلسطين، وكثير منا له أراض بفلسطين، تاريخ عاشه أهلي لسنوات الآن أصبح كله سراب، لم يتبق منه سوى حطام المنازل”.
وقال أبوعبد الله من عائلة البراهمة: “كنت آخر شخص أخلي منزله بالمرحلة الثانية، ما تركته إلا عندما وضعوا الديناميت به، حتى بعد تفجيره أمر عليه أستحضر تاريخ جدودي في جدرانه”.
وعن أصول عائلة البراهمة، أكد أبو عبد الله، في تصريحات لشبكة “رصد” الإخبارية، أن “عائلة البراهمة يختلف أصلها عن باقي الإقلاعية، حيث سكنت رفح منذ أكثر من ربعمائة عام، ولقد جاء جدودي من صعيد مصر، فعائلة البراهمة لها فروع في الصعيد، جاؤوا وقت الاحتلال الفرنسي وسكنوا رفح وعشنا فيها لمئات السنين، الآن ما بقي إقلاعية برفح تشتتنا حتى أبناء العائلة الواحدة كل واحد سكن في مكان مختلف، بعدما كنا جميعا في بيت واحد يحيط بنا باقي العائلة”.
وختم كلامه قائلا: “كم أتمنى أن يكتفوا فقط بهدم المنزل ويتركوا لنا الأرض”.
أمنية أبو عبد الله، تشابهت مع أمنية أم محمد من عائلة حلاوة والتي قالت “رفح أرض مقدسة أرض مباركة.. كيف بدنا نتركها، يا ريت يسيبونا ونبني عشش وخصوص، ولا نسيب رفح بس مش طالع بإيدينا حاجة، مروا علينا الفرنسيين ومر علينا الإنجليز ومر علينا اليهود، ما حد طلعنا من دورنا زي ما عمل جيشنا فينا”.
وقد اختلفت طرق تعبير أهالي رفح عن حسرتهم لتركهم أرضهم وبيوتهم، فهناك من عبر عنها بالكلام وهناك من عبر عنها بعبارات رصدت على جدران حطام المنازل، منها “وداعا رفح”، و”راجعين يا رفح”، و”عندما نرحل تأكدوا تماما أننا بذلنا ما في وسعنا كي نبقى”، وعبارات أخرى عبروا خلالها عن القهر الذي يشعرون به مثل “حسبي الله ونعم الوكيل”.
وهكذا انتهى المطاف بأهالي مدينة رفح المطرودين من مدينتهم التي ودعوها بحسرة الفراق وأمل في عودة لموطنهم الذي دفن جيش السيسي تاريخه مع حطام منازلهم.