شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

كيف تُنقذ عاصمة قديمة دون زياط أو همبكة؟

كيف تُنقذ عاصمة قديمة دون زياط أو همبكة؟
“انت من هنا وعارف”؛ ولذلك ستتفهم كيف ولماذا شعرت بالغضب المشوب بالحقد والممتزج بالضغينة والمداني لتمني زوال النعمة، لأن أحدًا لن يعاقب مسؤولي متحف الفن الحديث بنيويورك بالفصل والإحالة لنيابة أمن الدولة العليا...

“أنت من هنا وعارف”؛ ولذلك ستتفهم كيف ولماذا شعرت بالغضب المشوب بالحقد والممتزج بالضغينة والمداني لتمني زوال النعمة، لأن أحدًا لن يعاقب مسؤولي متحف الفن الحديث بنيويورك بالفصل والإحالة لنيابة أمن الدولة العليا؛ لأنهم قاموا بتنظيم معرض يعرض أحوال فقراء نيويورك، ويتضامن مع معاناتهم في العثور على سكن آدمي، ولأنه لن يتم شن حملات إعلامية شعواء عليهم؛ تتهمهم بالإساءة إلى سمعة أمريكا، وتطفيش السياح القادمين إليها، وإهالة التراب على الصورة المشرقة لمدينة نيويورك تفاحة أمريكا الكبيرة، بدلًا من الاكتفاء بعرض الأعمال الفنية “الهادفة” التي تظهر محاسن نيويورك ومفاتنها، وتحض على حب الوطن وسلامة أراضيه وطاعة أولي الأمر وتقبيل أيديهم قبل الأكل وبعده.

ولأن كُلًا يغني على ليلاه؛ يمكن أن أجزم أن تلك الأفكار المشوشة، التي دارت بذهني وأنا أطوف جنبات ذلك المعرض، لم تدُر بخَلَد أغلب الذين حضروه معي، وشاهدوا فيه الفيلم التسجيلي الذي يروي معاناة مشردي نيويورك الباحثين عن حقهم في السكن، ويعرض نضال عدد من مواطني الأحياء العريقة في المدينة، في مواجهة شركات العقارات الضخمة التي تسعى لهدم المباني القديمة، وطرد سكانها منها لإحلالها بعمارات زجاجية ضخمة شاهقة الارتفاع كئيبة المنظر.

صحيح أن مزيجًا من الغضب والحزن كان باديًا على وجوه الواقفين إلى جواري لمشاهدة الفيلم، لكنهم بالتأكيد كانوا يفكرون فيما يمكن فعله لمساندة هؤلاء السكان في حملتهم، بينما كنت أفكر في مأساة انهيار سقف طموحاتنا، بحيث لم نعد نتمنى زوال الظلم عن أوطاننا؛ بل أصبحنا نتمنى أن يُترك لنا فقط الحق في التعبير عن رفض الظلم وإنكاره، دون أن نتهم بالإساءة إلى سمعة الوطن وتشويه صورته وإهانة شعبه، وغيرها من التهم التي تطارد منذ الأزل كل من يفكر في مواجهة أبناء شعبه بأوضاعهم المزرية، دون تطبيل ولا همبكة ولا نحنحة، بدلًا من أن يشاركهم في الاقتيات على خرافات، توهمهم أنهم يمتلكون خصوصية تجعلهم أفضل شعوب الأرض، لكونهم خير أمة أخرجت للناس أو المتحدثين بلغة أهل الجنة أو أحفاد بناة الحضارات القديمة.

كان لا بد أن يمضي بعض الوقت، لكي أسيطر على أفكاري الملتاعة، وأبدأ في مشاهدة المعرض مركزًا على ما بداخله، أكثر من تركيزي على ما بداخلي أنا من ألم وحسرة، لكن ذلك بدا صعبًا للغاية، خاصة وأن المعرض بأكمله كان مكرسًا لمعالجة قضية “التطوير غير المتكافئ”، أو “النمو الظالم”، التي نعاني منها في بلادنا أشد المعاناة، حيث تختبئ خلف شعارات التطوير والتحديث وأرقام النمو والإصلاح، سياسات شريرة تسعى لسحق غير القادرين، وتجعل ثمار التطوير والتنمية حكرًا على القادرين والمتنفذين، وهو ما سعى المعرض لإبرازه من خلال أحوال ست مدن كبرى هي: مومباي، إسطنبول، ريو دي جانيرو، نيويورك، لاجوس، هونج كونج، يجمع بينها أنها مدن كبرى تمتلك كثافة سكنية عالية وأهمية اجتماعية واقتصادية فائقة، وتاريخًا ممتدًا من المشاكل والأزمات، حيث جاء المعرض تتويجًا لمبادرة تحمل عنوان “التطوير غير المتكافئ”، قامت على مدى 14 شهرًا بدراسة أوضاع تلك المدن وأحوال سكانها، لطرح حلول معمارية مبدعة، تحاول السيطرة على التطوير الظالم الذي يصاحب النمو السريع لتلك المدن.

لم يكن المعرض ضخم الحجم، لكنه كان منظمًا بشكل مبدع، حيث امتزجت الخرائط والصور والفيديوهات والرسوم البيانية والمعلومات الخاصة بكل مدينة، بشكل يجعلك تأخذ فكرة مكثفة عن أوضاعها الحالية، وفكرة أوسع عن المبادرات التي يتم عملها الآن لإصلاح أحوالها، ومع أن المعرض يستضيفه الجناح المخصص لفنون المعمار في متحف الفن الحديث؛ إلا أنك لن تجد من يستغرب كيف كان اهتمام المعرض الأكبر منصبًّا على سكان المدن، أكثر من المباني التي يسكنون فيها، ولن تجد من يتصور أن حل مشاكل تلك المدن المعقدة، يكون بتركها تواجه مصيرها المظلم، وبناء عواصم جديدة يتم اختيار سكانها على الفرازة، وهو ما حدث لدينا حين قرر نظام عبد الفتاح السيسي أن يهرب من مواجهة مسؤوليته عن أزمات القاهرة الكبرى، ليراه المصريون يقف فخورًا بصحبة مموليه الإماراتيين، أمام ماكيت شديد القبح، فوجئ المصريون أنه ماكيت لعاصمتهم الإدارية الجديدة، التي ستكون فخرًا لكل زائريها من المانحين والمقرضين والمستثمرين، وهو ما التقطه على الفور بعض صبيان النظام في وسائل الإع.. لام، فأخذوا يتحدثون عن ضرورة انتقاء من سيدخلون العاصمة الجديدة، لكي لا يتسرب إليها من يشوه صورتها الحضارية، ويطفش منها الأثرياء الأجانب الذين سنبنيها بأموالهم، من أجل أن نساعدهم على أن يشعروا أنهم في وطنهم الثاني: دبي.

ومع أن مدينة ضخمة مثل نيويورك، لا تعاني من نقص فادح في ناطحات السحاب الزجاجية الخازوقية؛ إلا أن مسؤولي متحف الفن الحديث، وضعوا نيويورك في نفس المستوى مع مدن تعاني من الفقر والعشوائيات والزحام الخانق مثل مومباي وريو دي جانيرو ولاغوس وإسطنبول، دون أن ينبري لهم من يذكرهم مثلًا بإنجاز شبكة المترو المتكاملة التي تربط أحياء نيويورك ببعضها، ولا بأن المدينة تحظى بعدد مهول من السائحين المنبهرين بها كل عام؛ لأن تقييم أصحاب العقول للمدن لم يعد بتعداد ناطحات السحاب فيها؛ بل بقدرتها على توفير حياة أفضل لكل سكانها، ولذلك لم يخجل متحف الفن الحديث، أو الموما كما يسميه أهل نيويورك، الذين يعتبرونه ثالث أكبر وأهم متاحفها، من تذكير زائريه سواء كانوا من أهل نيويورك أو من السائحين القادمين إليها، بأن هذه المدينة التي تعد أهم مركز للاقتصاد العالمي، والتي يسكنها 389 ألف ومئة مليونير، هي نفس المدينة التي يعتبر 21.4 في المئة من سكانها فقراء، منهم 5.4 في المئة يعيشون في فقر مدقع، ويعاني واحد من كل أربعة أطفال فيها من الفقر، داعمة تلك الأرقام بخرائط تفصيلية حول الأحياء التي تعلو فيها نسب الفقر، وإحصائيات حول المشاكل التي يعاني منها سكان تلك الأحياء، ليوصل ذلك رسالة إلى كل من يرى المعرض أن ما يراه حوله من مبانٍ فخمة، قبل قدومه إلى المتحف أو بعد خروجه منه، ليس الصورة الكاملة لنيويورك، وأن من الخطأ البالغ تبنّي الصور النمطية عن المتسولين والهائمين على وجوههم في الطرقات، بوصفهم كسالى متهربين من تحمل مسؤولياتهم؛ ولذلك تم عرض لقاءات مع عدد منهم، تحدثوا فيها عن محاولاتهم المريرة لإيجاد عمل دون جدوى، وعن معاناتهم من أجل العثور على فرص حياة آدمية، بدلًا من اللجوء إلى التسول، مع تأكيد المتحدثين في الفيلم المعروض على أن التبرعات والأعمال الخيرية لن تحل وحدها مشاكل تلك المدينة، وأن على الجميع الانضمام إلى المبادرات الشعبية التي تهدف لإنقاذ المدينة وتحسين أوضاعها، والتي يوفر المعرض طرق التواصل مع أصحابها للانضمام إليهم أو مساندتهم.

“المدن هي الناس أولًا وأخيرًا، وإذا كان هناك أزمات معقدة تمر بها هذه المدن الكبرى، فلن يكون الحل أبدًا في الهروب من مواجهة تلك المشاكل وتحميلها للناس؛ بل سيكون الحل في إشراك الناس في حل هذه المشاكل، من خلال مبادرات ذكية وعملية يدرك من خلالها الناس أن حياتهم مهمة، وأن هناك إمكانية لجعلها أقل سوءًا“، هذه هي الرسالة المهمة التي يوصلها المعرض، وهذا ما تسعى للتأكيد عليه مبادرته التي قدمت مقترحات من واقع أحوال المدن الست، توصلت إليها ستة فرق عمل، تكونت من متخصصين في العمارة والتطوير الحضري والهندسة وخبراء البيئة والمتخصصين في الدراسات الاجتماعية والاقتصادية، وقد لفت انتباهي الحرص على أن تكون المقترحات “متدرجة من أسفل إلى أعلى”، طبقًا لتعبير مسؤولي المبادرة، للتأكيد على أهمية العمل بالتوازي بين المقترحات الضخمة التي يظهر أثرها بعد سنوات، وبين المقترحات البسيطة التي يمكن ظهور أثرها البسيط على الفور.

في أركان متفرقة من المعرض، سترى كيف يتم تطوير المساكن المتهالكة في أحياء مومباي الأشد فقرًا، بحيث يتم إعادة بنائها دون إخراج سكانها منها، من خلال مجالس شعبية من أهالي الأحياء، يشتركون في بحث وتنفيذ خطط تطوير منازلهم وشوارعهم وإمدادها بالخدمات، لتكون مشاركتهم فعالة ومثمرة، بعد أن اطمأنوا إلى أن المبادرة لا تهدف إلى إزالتهم من الوجود، لتحل مكانهم عمارات ضخمة أو منتجعات سكنية.

في حين تنصب خطط تطوير لاجوس عاصمة نيجيريا، على ثلاثة مجالات هي المياه والمواصلات ومشاكل الطاقة الكهربائية، خاصة أن الكهرباء لا تصمد في بعض أحياء لاجوس لأكثر من ثلاث ساعات في اليوم، وهو أمر لم يكن سيحدث في بلد بترولي ثري، لولا الفساد والنمو الظالم الذي يجني ثماره الأغنياء.

أما إسطنبول التي كانت أسعد حظًا ببدء خطط تطويرها منذ سنوات، فسترى تزامنًا بين المقترحات الكبرى التي تسعى لحل مشكلة الاختناق المروري وأزمة المواصلات والمشاكل البيئية، وبين المقترحات البسيطة التي تسعى لحل مشاكل فرعية في بعض الأحياء، من ذلك على سبيل المثال ما تم في أحد الأحياء التي تكثر فيها الحرائق في فصل الصيف، حيث تم تثبيت طفايات حريق بصناديق البريد الموجودة في الشوارع، ليتم استخدامها عند الضرورة دون انتظار المطافئ، وما حدث في حي شعبي آخر به كثافة سكنية عالية، ولا توجد به مساحات للعب الأطفال، حيث تم تحويل بعض مناطق الأرصفة إلى مساحات تم ملؤها برمال الشواطئ مع توفير ألعاب ليستخدمها الأطفال، مع مراعاة أن يتم تنفيذ ذلك واستمراره من خلال سكان المناطق أنفسهم، بتنسيق مع أجهزة الشرطة ومن إدارة البلديات التي يتحكم الناس في اختيارها بالانتخاب؛ وبالتالي يتحول الأهالي عبر هذه الشبكة إلى شركاء في التطوير، بدلًا من أن يكونوا متفرجين عليه، فيتعاملوا باستخفاف مع محاولات تخريبه أو نهبه، أو يشاركوا في ذلك التخريب والنهب.

لكن، “انت من هنا وعارف”، أن طرح أي مقترحات من هذا النوع في بلادنا، سيواجه بحديث مكرر ومعاد يدعي أن المواطن المصري غير قابل للإصلاح، ويفترض أنك لو قمت بتحسين حياته بأي شكل سيقوم بنهبه وإفساده، ليختار البقاء في التخلف والفقر والعفانة، وهو كلام يردده نفس الأشخاص الذين لا يكفون في الوقت ذاته عن ترديد أفكار عنصرية تفترض أن المصريين أعظم شعوب الأرض، مع أن الطريقة التي سيتصرف بها المصريون، لن تختلف عن الطريقة التي يتصرف بها أي شعب، حين يشعر أن هناك أملًا في إصلاح أحواله، ويدرك أن هناك اهتمامًا حكوميًا بتحسين معيشته، وأن هناك قانونًا سيطبق بعدل وحزم على كل من يخطئ دون خيار ولا فاقوس، ولعل من يقرأ كثيرًا من الأدب التركي المترجم إلى العربية، خصوصًا ما كان منه لكتاب ساخرين، سيجد فيه مر الشكوى من انتشار التسيب والفساد والفوضى في ربوع تركيا خصوصًا خلال حكم العسكر لها بالحديد والنار، وهو ما جعلني أستغرب بشدة منذ أن بدأت بزيارة تركيا بانتظام بدءًا من عام 2005، فقد رأيت في أكبر مدنها إسطنبول وإزمير وأنطاليا وبورصة، وحتى في مدنها الصغيرة وقراها، صورة مختلفة للغاية عما كنت قد قرأت عنه، ولأعرف من خلال زياراتي ومناقشاتي مع الناس، أن الصورة التي قرأت عنها كانت حقيقية بالفعل قبل سنوات، لكنها تغيرت تدريجيًا وبشكل مبهر، ليس بفعل قرارات حكومية فوقية، وإنما بسبب الأثر المدهش الذي حققته الانتخابات البلدية الحرة والخالية من التزوير، فقد أصبحت القيادات المنتخبة عبرها طاقة تغيير حقيقية، جعلت كل من يزور تركيا بانتظام، يندهش من وجود تطور مستمر في مدنها، لا يستهدف في الأساس السائحين والمستثمرين؛ بل يستهدف قبل ذلك سكان المدن الذين يتحكمون في بقاء مسؤولي المدن في مناصبهم، ويضعونهم تحت رقابتهم للإطاحة بأي مسؤول ينكشف فساده أو يظهر تلاعبه بموارد المدينة أو القرية.

ويحدث كل ذلك بشكل متوازٍ مع الصراع السياسي العنيف الذي يدور بين الأحزاب والحركات الاجتماعية، ويتقاطع معه أيضًا حيث تصبح البلديات مجالًا لإنتاج قيادات شعبية مرتبطة بالعمل الاجتماعي، ويتم تصعيدها بعد ذلك إلى ساحة العمل السياسي، وهو ما يفسر تجذر حزب العدالة والتنمية في الواقع التركي، بشكل يحير منافسيه ويجعلهم عاجزين عن استغلال الخطايا السياسية، التي بات يرتكبها زعيمه رجب طيب أردوغان بكثافة في السنتين الأخيرتين بالتحديد؛ لأن نجاح البلديات التي يسيطر الحزب على نسبة كبيرة منها، في جعل حياة الأتراك أقل سوءًا وأكثر احتمالًا، هو الذي يثير اهتمام المواطنين أكثر من الصراع السياسي والإعلامي، وهو الذي يجعل نسبة كبيرة منهم لا ترى بديلًا آخر في الساحة عن أردوغان وحزبه؛ ولذلك سيظل على أي حزب يرغب في الإطاحة بأردوغان وحزبه من الحكم، أن يبدأ أولًا وأخيرًا من العمل في البلديات.

لكن، تعال وقل هذا الكلام لمن لا يرى جدوى انتخابات اتحادات طلاب الجامعات، فضلًا عن أن يرى جدواها في المجالس المحلية والبلديات، ولمن يعتقد أن الانتخابات رجس من عمل الغرب المتآمر، ومن يظن أن حياته ستصبح أفضل في ظل حكم الفرد الآمر الناهي المتصرف على البلاد والعباد، وحين تذكره بأن ذلك لم يفلح ولا مرّة، سيقول لك إن العيب في كل مرة، كان في شخص الحاكم، وليس في طريقة حكمه، وإنك ستندهش هذه المرّة، حين ترى الخير الذي سيعم على البلاد، بفضل حاكمها المغمور بالنفحات الإلهية، فلا تجد أمامك إلا ترديد المثل الشعبي القائل: “يا مستني السمنة من فخذ النملة، عمرك ما تتقلّى”، محاولًا التغلب على مشاعر الضغينة والحقد وتمني زوال النعمة التي تنتابك، حين ترى كيف تحاول البلاد الراغبة في التطور إنقاذ مدنها القديمة وإصلاح حال سكانها، دون زياط ولا همبكة ولا نحنحة.

“وأن ليس للإنسان إلا ما سعى”.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023