أعدمت مجموعة مسلحة أطلقت على نفسها “ولاية طرابلس”، أقباطا مصريين، في مدينة سرت الليبية، فأثارت موجة من الغضب داخل مصر وخارجها، وأوقعت السلطة المصرية في إحراج دفعها إلى شن غارات متعجلة لكن على مدينة درنة فأوقعت مدنيين قتلى وجرحى.
الإجراء الثأري المصري كان محدودًا بكل المقاييس؛ فعلاوة على أن من الواضح أن الغارتين أصابتا أهدافًا مدنية، وتسبَّبت في قتل نساء وأطفال، ليس من المؤكد بعدُ مدى الضرر الذي أوقعته في أماكن تواجد الثوار التابعين لمجلس شورى مجاهدي درنة ومعسكراتهم. وهذا ما أثار الأسئلة المتعلقة بما إن كانت الغارات الجوية مجرد مقدمة لتدخل مصري أكبر، وطبيعة هذا التدخل ومداه لتجيب على هذه الأسئلة “مركز الجزيرة للدراسات والأبحاث”..
التدخل المصري: المدى والشروط
تمتلك مصر واحدًا من أكبر الجيوش في شمال إفريقيا، بتعداد يبلغ نصف المليون من الجنود، وزهاء 400 طائرة حربية من كافة الأنواع، و4000 دبابة وناقلة مصفحة. ويعتبر الجيش المصري أحد الجيوش القليلة في المنطقة التي تحتفظ بخبرة عملياتية للقتال في بيئة صحراوية. وإضافة إلى أن حكومة طبرق والقوات الموالية لحفتر تتوسل مصر للتدخل العسكري، تمثل ليبيا سوقًا هائلة للعمالة والمنتجات المصرية، ويمكن أن تكون أحد مصادر النفط الرخيص لمصر. وليس من المستبعد إن قررت القاهرة التدخل في ليبيا أن تتكفل دولة الإمارات، الحليف الوثيق للنظام المصري والتي تلعب دورًا كبيرًا في دعم طبرق وقوات حفتر، بالتكاليف المالية للعملية. كما أن هناك تعاطفًا إقليميًّا ودوليًّا مع مصر، بعد أن أثارت مشاهد إعدام المختطفين المصريين مشاعر غضب واستهجان، في مصر وفي ليبيا، كما في المنطقة العربية والعالم. نظريًّا، إذن، يمكن لنظام الجنرال السيسي بالفعل التدخل العسكري في الجارة الليبية.
ولكن موانع التدخل لا تقل حجمًا؛ فمهما كان حجم القوات المسلحة المصرية، فإن هناك شكوكًا كبيرة حول كفاءة الجيش المصري وقدرته على تعهد عملية عسكرية كبيرة خارج حدود بلاده. منذ 1973، لم يخض الجيش المصري أية معركة فعلية، ويُعتقد أن النشاطات المالية والاقتصادية للمؤسسة العسكرية أفسدت قطاعات واسعة من طبقة الضباط. علاوة على أن الجيش المصري يفتقد أية خبرة معتبرة لخوض قتال غير نظامي مع مجموعات مسلحة، أو القتال داخل المدن والتجمعات السكنية. وقد استطاعت المجموعات المسلحة في سيناء، التي لا يزيد تعدادها عن عدة مئات، إيقاع خسائر بالغة في قوات الجيش خلال العمليات التي شنَّها في شمالي سيناء منذ عام ونصف العام. ولا يقل أهمية أن أغلب الليبيين، وبالرغم من رفضهم للجماعات الجهادية، يرفض تدخلًا مصريًّا عسكريًّا في الشأن الليبي.
من جهة أخرى، فإن العمليات التي تعهدها الجيش المصري خارج حدود البلاد في الحقبة الحديثة لا تبعث على كثير من الاطمئنان؛ فسواء في حرب فلسطين في نهاية الأربعينات، أو حرب اليمن الأهلية في مطلع الستينات، من القرن الماضي، أوقعت بالجيش المصري هزائم مؤلمة. كانت الهزيمة في فلسطين أحد الأسباب التي أدت إلى انقلاب يوليو/تموز 1952، وتركت خسائر اليمن الباهظة أثرًا عميقًا على تأييد المصريين للنظام الناصري، ويُعتقد أن التدخل المصري في اليمن أسهم في إضعاف الجيش وفي تقصيره الفادح في الحرب العربية-الإسرائيلية الثالثة في يونيو/حزيران 1967.
سياسيًّا، تتنازع الجزائر والقاهرة النفوذ على ليبيا، ويدرك الجنرال السيسي أن تدخله العسكري المباشر والواسع بدون موافقة جزائرية، سيولِّد ردود فعل في الجزائر، وقد يؤدي إلى انحياز جزائري فعلي للثوار وحكومة طرابلس. وقد كان واضحًا من أن من بين بيانات الشجب لمقتل المخطوفين والإعراب عن التعاطف مع مصر، التي صدرت من معظم الدول العربية وعدد من الدولة الغربية، أن البيان الرسمي الجزائر تضمن توكيدًا على ضرورة تضافر الجهود للتوصل إلى “حل سياسي” للأزمة الليبية.
الأرجح، بالتالي، أن يقتصر التدخل المصري المباشر على الغارتين الثأريتين اللتين نُفِّذتا يوم 16 فبراير/شباط، وأن لا يعود سلاح الجو المصري لمثل هذه الغارات إلا إن قامت “ولاية طرابلس” بأعمال استفزازية جديدة. على المستوى غير المباشر، لم يكن خافيًا أن القاهرة توفر مساعدات عسكرية لقوات حفتر منذ أكثر من عام، بما في ذلك برامج تدريب لهذه القوات ومعدات عسكرية، يُعتقد أن تكلفتها تتحملها دولة الإمارات. مثل هذا التدخل غير المباشر قد يصبح أكبر حجمًا وأعلى نوعًا في الشهور القليلة المقبلة.
احتمالات التدخل العربي والدولي
قلق القاهرة المتزايد من الوضع الليبي، وعجز قوات حفتر عن تحقيق تقدم ملموس لحسم النزاع، وصعوبة قيام مصر بالتدخل المنفرد، يطرح احتمالين آخرين: تدخلًا عربيًّا جماعيًّا، أو تدخلًا دوليًّا تشارك فيه القوات المصرية أو أية قوات عربية أخرى.
يتطلب التدخل العربي قرارًا من الجامعة العربية ووجود تأييد عربي واسع لمثل هذا التدخل. وكان من المتوقع أن يذهب نظام السيسي مباشرة بعد حادثة سرت المؤلمة إلى الجامعة العربية وأن يطلب مثل هذا القرار. ولكنه لم يفعل. أولًا: لأن القاهرة تدرك، على الأرجح، أن الجزائر لن تؤيد تدخلًا عسكريًّا عربيًّا. وبالرغم من أن بعض دول الخليج، قد يؤيد التدخل العربي، فليس من المؤكد أن قطر، وحتى السعودية وعُمان والسودان، ستتخذ موقفًا مؤيدًا. هذا، إضافة إلى أن الدول التي يُحتمل أن تؤيد التدخل تفتقد إلى المقدَّرات العسكرية التي تسمح لها بتعهد مثل هذه المغامرة.
الحل الوحيد المتبقي هو التدخل الدولي، الذي يحتاج قرارًا من مجلس الأمن، واستعداد عدد من الدول الغربية الرئيسية للمشاركة في العملية. والمفترض أن يعقد مجلس الأمن الدولي جلسة طارئة حول الوضع في ليبيا في ضوء حادثة سرت يوم الأربعاء 18 فبراير/شباط، ولكن لا توجد دولة من أعضاء المجلس أعلنت بعدُ عن التقدم بمشروع قرار جديد للمجلس حول ليبيا. وإن تقدمت إحدى الدول الأعضاء بمشروع قرار يوفر شرعية دولية للتدخل العسكري، فليس من الواضح ما إن كان المشروع سيتعلق بمحاربة “ولاية طرابلس” أو التدخل على نطاق واسع لإعادة بناء دولة ليبية واحدة بالقوة. كما أنه ليس من الواضح ما إن كان المشروع سيجد التأييد الكافي، سيما في ضوء رفض روسيا التقليدي للتدخلات الغربية العسكرية في شؤون الدول الأخرى.
ومهما كان موقف مجلس الأمن من فكرة التدخل العسكري الدولي في ليبيا، فإن تدخلًا من هذا النوع يصعب إنجازه بدون مشاركة أميركية. ثمة مؤشرات على أن إيطاليا وفرنسا أصبحتا أكثر استعدادًا لتدخلٍ ما في ليبيا، ولكن تجربة التدخل الغربي في 2011 وفَّرت أدلة كافية على أن الدول الأوروبية لا تستطيع، بدون مشاركة أميركية، تحمُّل أعباء عملية عسكرية كبيرة وطويلة المدى، تتطلب قوة جوية بالغة التأثير، ووسائل نقل سريعة وكفؤة، وقدرات استخباراتية كبيرة، واستعدادًا للبقاء في البلاد لفترة طويلة إلى أن يحلَّ السلم ويعاد بناء الدولة وأجهزتها. ويشير البيان الذي أصدرته الدول الغربية وأميركا، الثلاثاء 17 فبراير/شباط، إلى تجدد التزامهم بالحل السلمي للقضية الليبية، في سياق ردهم على إعدام “ولاية طرابلس” للأقباط المصريين، بما يعني رفضهم للحلول العسكرية الخارجية.
مخاطر التدخل
خلال الشهور الأولى من 2015، نجح المبعوث الدولي إلى ليبيا، بيرناردينو ليون، في جمع معظم أطراف الأزمة الليبية على طاولة الحوار. وفي خطوة تدل على تقدم جهود الحوار، توافق الليبيون على نقل مكان حوارهم من سويسرا إلى الأرض الليبية. عُقدت جلسة أولى للحوار بالفعل في ليبيا، وكان متوقعًا أن يبدأ المتحاورون في نقاش مسائل الخلاف الجوهرية في الجلسات التالية ولكن حادثة سرت والغارات المصرية الجوية، وارتفاع الدعوات من حكومة طبرق ومن حفتر شخصيًّا بالتدخل الخارجي، ألقت ظلالًا من الشك حول مستقبل الحوار، وما إن كان سيُستأنف سريعًا.
بعد شهور طويلة من القتال في أكثر من جبهة صدام بين أطراف الأزمة، وتراجع المقدَّرات المالية لليبيا، التي تُعتبر واحدة من أغنى الدول المصدِّرة للنفط، وتزايد أعداد اللاجئين، لم يعد ثمة خلاف على أن حل الأزمة الليبية لابد أن يكون تفاوضيًّا. التدخلات العسكرية الأجنبية، مصرية أو عربية أو غربية، ستزيد الأزمة تعقيدًا وآلام الليبيين وخسائرهم تفاقمًا. وستُوقع هذه التدخلات أذى كبيرًا بالجيش المصري كذلك، كما بأية قوى عسكرية تدخلية أخرى، وتوفر الوقود لمزيد من تنامي الجماعات المسلحة، فتفاقم من الأزمة بدلا من حلِّها.