بالقدر الذي بدت فيه أحداث الأحد الماضي 25 يناير (كانون ثاني)، في الذكرى الرابعة لثورة يناير، وكأنها تؤسس لمرحلة ثورية جديدة؛ فإنها كانت تكشف عما هو أهم، أو بالأحرى تؤكد على ما هو أهم، أي استمرار الحركة التاريخية الكبرى في مجالنا العربي الكبير، وفي القلب منه مصر، التي كانت ضرورية لحركة التاريخ الراهنة كي تأخذ أبعادها التي تجعل منها كبيرة في عمقها وأفقها، وكذلك موقعها من حركة التاريخ العامة التي تستغرق البشرية كلها.
وطالما أن هذه الحركة لم تقتصر على تونس، البلد الذي بدأت فيه، وغطت المجال العربي كله بمستويات متنوعة، كانت في بعضها مكثفة، وفي أخرى كانت أقرب ما تكون صدى لأصلها الذي في بلاد الثورة المكثفة، فإنها كانت ومن هذه الناحية أكبر من حركة عابرة، وبما يدل على إرادة قاهرة تدفع هذا الدفق التاريخي الذي يلتقط بدوره فاعليه الذين يستمر بهم، ويصل إلى غاياته بهم.
تغمر هذه الحركات التاريخية الهائلة ملايين البشر الذين يجدون أنفسهم فيها دون وعي منهم ولا إرادة، فما من واحد في مجال هذه الحركة إلا ويخضع لتأثيراتها بصرف النظر عن موقفه منها، أو وعيه بها، بنسب متفاوتة بحسب الشكل الذي تتخذه الحركة في كل بلد، وبحسب سيرورتها في ذلك البلد، إلا أن المبهر في هذا الالتقاء بين دفع القدر واستجابة الإنسان، هو تلك القدرة البشرية التي تتجلى في تطبع الإنسان مع حركة التاريخ، التي تعيد تشكيل الناس وصفّهم من جديد على أساس من موقفهم منها وتفاعلهم معها وتأثرهم بها.
فجأة تنقلب صورة الشعوب، بانقلاب سلوك تلك الشعوب التي تبين وعلى نحو معجز عن قدرة عالية على احتمال قسوة هذه الحركات بما يتحرك في مجراها من عنف ودمار وقتل وفوضى، بعدما كانت من قبل كسيحة الخوف، إلا أن هذا التطبع المصنوع بقهر الضرورة، لا يشكل إلا مقطعًا من الصورة التي تكتمل بذلك التطبع الواعي حينما يختار الآلاف بدورهم المكان الصحيح، ثم يدفعون بهذه الحركة إلى نهاياتها بدمهم وعرقهم، حتى لو قضى منهم الآلاف قبل بلوغ النهايات.
تأتي هذه الحركات التاريخية الكبرى بقدرة ذاتية على توليد الفاعلين المناسبين، إذ لا بد من وجود التدافع الدائم، والذي يتصاعد بين عناصر التناقض بحسب حجم حركة التاريخ، والتي يستجيب لها الفاعلون الإيجابيون بإرادة واختيار منهم، وبوعي نسبي ما بين قيام بالواجب بصرف النظر عن صحة القراءة لطبيعة الحركة التاريخية ومدياتها المحتملة، والتحاق بصير بهذه الحركة، يدرك حجمها، ويسبر عمقها، ويعلم ضرورته لها، وفي ذلك تحصل عملية انتخاب قاسية، يسقط فيها كثيرون، ويصعد آخرون، وتوضع جماعات التغيير الكبرى التي تكرست في أنماط ثابتة أمام تحديات كبرى في أن تتغير هي بدورها أيجابيًا بما يناسب اللحظة أو تُستبدل: "وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".
وبهذا الدفع البشري، أي بوجود الآلاف من البشر الذين يختارون المكان الصحيح، يُكتب لهذه الحركة الاستمرار، واكتشاف الحلول الصحيحة، وتطوير مشروع للأمة، خاصة بعد تغير الاصطفافات، وانفضاح المشاريع المناوئة، واستنفاد كثير من الحلول، ولذلك فإن التقدير الصحيح لحجم الحركة التاريخية وأبعادها لا يتم مرة واحدة في لحظاتها الأولى، بل يأخذ مداه في مسار شديد القسوة ويتلفع بالحيرة والغموض والارتباك، في الوقت الذي يبدو فيه معاندو الحركة التاريخية من الطواغيت وجنودهم الأقدر والأعرف بما يريدون، لأن قضيتهم واضحة من ناحية، وهي الحفاظ على مصالحهم وحسب، ولأنهم يملكون أدوات القوة من ناحية ثانية.
إن رفض الانقلاب في مصر، وعدم التسليم لليأس بعد فشل المحاولة الإصلاحية من داخل الدولة، واستمرار الجماهير في الشوارع طوال الفترة الماضية، رغم حركتهم الرتيبة، وأدائهم المتواضع، هو الذي حافظ على استمرار هذه الحركة التاريخية كحركة كبرى، وهو الذي أفضى مع الوقت إلى إحداث التغييرات في الجسم التنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين، وفي تعاطيها مع هذه اللحظة بما ظهر من أداء مختلف يوم الأحد الماضي، وهو الأداء الذي ينبغي البناء عليه من حيث النوع والانتشار والاستمرار.
وتبدو صورة هذه الحركة التاريخية الكبرى أكثر تمامًا، بالنظر إلى سوريا الواقعة في الشمال الشرقي لفلسطين، في مقابل مصر الواقعة في الجنوب الغربي لفلسطين، في تدبير لطيف ودال للقوة القاهرة التي تدير حركة التاريخ، ففي سوريا التي تحول شبابها إلى مقاتلين، حينما أراد النظام إنهاء مظاهراتهم بالرصاص، تظهر اصطفافات جديدة، تزيد من عمق هذه الحركة وفي آفاقها.