يتساءل كثير من الشباب في أيامنا هذه عن مسارات الحياة الدائرة ، وعن تصادم الرؤى والآراء والتوجهات التي باتت تعصف بكل القيم الإنسانية والمعرفية ، وباتت تمس بعض الثوابت والمرتكزات ، فما كان من مسلمات الأمس بات متغيراً اليوم ، وما بات من الثوابت بات من السياسة الحزبية .
هذا الواقع بات يلقي بظلال وارفة على شخصية الفرد العربي والمسلم ، واوجدت حالة من التيه والضبابية في التوجهات.
التحدي الكبير هنا ليس على السياسيين ولا على الإعلاميين ولا على النخب المثقفة – برأيي – ، بل يتصل بالشخص الفرد لا بالكل الجمعي .
المفاهيم والقيم والأفكار عندما تتأرجح ، وعندمما تصطدم مع بعضها في بيئة غير مواتية كالتي نعيشها اليوم ، توجد بعداً نفسياً قاسيا لدى الناس ، كحالات الموت المنتشرة ، وصراع التيارات الفكرية ، والاحتراب المعرفي بين أشكال العمل السياسي ، ودخول البنادق المسيسة على خط الأزمات الثقافية ، كل ذلك يعتبر من عوامل تشتيت البناء الذاتي للإنسان ، وتقويض ثباته النفسي والمعرفي وبالتالي سلوكه في الحياة .
ما دفعني للحديث في هذا الموضوع ، هو مجموعة الحوارات التي أخوضها مع الشباب ، فقد وقفت على حقيقة التيه المعرفي الحاصل نتيجة المتغيرات المتسارعة الموجودة في الساحة العربية والإسلامية ، وحالة الخوف من المستقبل التي تعتري المجموع الشبابي ، فحيثما سرت من اليمن لتونس ، ومن سوريا لفلسطين للعراق ، لمصر للسودان ولغيرها من اصقاع البلاد ، تجد التخبط سيد الموقف ، وتجد بعض الساسة يضربون بعضاً بالفكر والسيف على حد سواء .
الشباب هنا هم عنوان المرحلة ، بفهمهم وسلامة توجهاتهم يمكن أن يضبطوا البوصلة من جديد ، ولذلك وباختصار شديد رغبت ان أطرح هذا العنوان كبداية للمسار ( كن ذيلًا لأسد ولا تكن رأسًا لكلب ) .
الضغوطات كثيرة ولا تنحصر ، ومسميات الأزمات باتت تحتاج لقواميس معرفية جديدة ، وعلى اليد الأخرى ، باتت عناوين الإغراء لا تنهي ، فالدول الكبرى والدول الغقليمية باتت تمد أياديها في الدول المجاورة لها لبسط النفوذ المستقبلي من خلال صناع القرار ، والتأثير المباشر بهم ليكونوا مع هذه الدولة أو تلك .
الإغراء هنا أخطر من سياسات الهدم ، فشراء ذمة إعلامي قد تدمر المجتمع ، وشراء ذمة سياسي قد توجد فتنة لا تنتهي في أي مجتمع ، والدول تحتاج لمن يحمل عنها هم الإشكاليات والسياسات الخارجية المصطنعة .
وللشباب أقول ، افتحوا عيونكم جيدًا ، فهذه مسألة خطرة جدًا على واقع ومستقبل قضاياكم ، فكما تستعدون للتحديات الفكرية والسياسية ، عليكم أن تستعدوا لمواجهة ضغوط الإغراء المادي وإغراء الجاه والسلطة والمنصب ، فهما أمران خطران ، والسيف له حدان ، ولكن كلاهما قاطع قاتل .
للإغراء تاريخه الطويل ، فبه تستمال النفوس بالمال والجاه والسلطة والنساء ، وهناك إغراءات الاقتصاد ، والسفر للخارج ، والوعود بالمكانة العالية في الغرب والرواتب الخيالية ، وصرف ( مستحقات شهرية ) للنخب الإعلامية والأدبية والفكرية التي تتبنى فكر هذه الدولة أو تلك .. وبالمحصلة ، تغدق الأموال وتضيع هوية الشعوب وثقافاتها .. وهنا المجتمع بحاجة للصوت الحر الذي لا يخشى من الطلقة الغادرة بكاتم الصوت.
الاحتياج هنا لمن يحسن تحليل الواقع ، ويصرخ في مجتمعه وفي شرائح العامة والخاصة ، أوطانكم وشعوبكم أولى بكم من الخارج وأصحاب الاجندات ، شعوبنا التي تتوق للحرية والكرامة أولى لكم من ملايين الدولارات التي تشترى بها الذمم ، وتحرّف من خلالها بوصلة الحقيقة.
مؤسساتيا ، وفرديًا ، هذا الجهد يحمل طابع الوفاء ، ولكنه على مستوى الدولة يمثل جزءًا من منظومة الحفاظ على الأمن القومي ، فاختراق الجبهة الداخلية بالأفكار السامة ، أو تعكير صفو المجتمع من خلال شائعات مغرضة تفتته ، أو ترك ميدان السياسة بلا رقابة ، أو فتح نوافذ الإعلام ليسرح بها الجاهل والعاقل ، كلها من سمات الجهل القاتل ، ويترتب عليها خطر داهم يمس أصل الاستقرار المجتمعي .
عندما كنت صغيرًا ، كلمني أحد أساتذتي بهذه الكلمة ، ولا زالت رنانة في أذني ، قال لي : (( إذا ضاقت عليك الدنيا ، فكن ذيلًا لأسد ، ولا تكن رأسًا لكلب )) .. وبعد سلسلة الأبحاث التي أقوم بها عن واقع عالمنا العربي اليوم ، بت اقرب إلى فهم هذه الرسالة الكبرى من أستاذ كبير .
ربما ما يجري على الأرض السورية أو العراقية او المصرية أو التونسية أو الفلسطينية ، جزء من هذه المعادلة ، معادلة السيطرة على الأرض والقرار السياسي من خلال جهات متنفذة يتم شراؤها لتنفذ وتصبح أداة خرساء بيد صناع القرار الغربي ، فقد بتنا نشاهد ونسمع في صباح كل يوم ما لا نسمعه في مسائه ، كل شيء يتغير ، كل شيء يتحور ويتحول ، والمعايير والمقومات تفتقد ، وأسس الحكم والتحليل مفتقدة ، وأصبح الواقع السياسي في هذه الدولة أو تلك رهينة بقرار أو توجهات هذه الشخصية المتنفذة أو تلك ، وهو ما يتيح فرصة كبرى أمام المتابعين والمحللين الغربيين لتسليط الضوء عليها لاستمالتها نحوهم بالعصا أو بالجزرة ، ترهيبًا وترغيبًا .
أعود فأذكركم أيها الشباب ، أننا بحاجة ماسة غلى عمل مؤسساتي رتيب يضبط البوصلة ، ويحافظ على مسار التوجهات الفكرية ، ويمنع انحراف الفرد والجموع ، وهذا لا يتأتى إلا بتركيز مفاهيم أساسية في عالم البناء السياسي والديني والمعرفي ، كأسس الولاء والبراء ، والوفاء للأرض والإنسان والهوية ، والدفاع عن كل ما هو مقدس في وجه أعاصير التغريب والتشتيت .
وأختم هنا بما بدأت به … يا شباب عالمنا العربي والإسلامي المضغوط والمرهق بفعل واقع الحياة السياسية والاقتصادية ، حذار حذار من أن افرطوا بهويتكم ، أو أن تطبعوا على جباهكم كلمة ( للبيع أو للإيجار ) فظن أمتكم بكم أعلى وأسمى ، وأوطانكم تنتظر منكم الكثير ، فإذا اشتد عليكم البلاء ، فكونوا مع الصادقين ولو في مستويات الخدمة ، ولا تكونوا مع الخونة والجهلة وأصحاب الأهواء ولو منحوكم أرفع الأوسمة والألقاب.