شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

ما لا بد منه لاستئناف الدور الكوني – أبو يعرب المرزوقي

ما لا بد منه لاستئناف الدور الكوني – أبو يعرب المرزوقي
نشر هذا البحث بتاريخ 2013.12.31 ونعيد نشره اليوم بسبب تطور أوضاع الثورة العربية التي تبدو متعثرة بنهجيها...

نشر هذا البحث بتاريخ 2013.12.31 ونعيد نشره اليوم بسبب تطور أوضاع الثورة العربية التي تبدو متعثرة بنهجيها السلمي والحربي. والكلام هو على كيفية تحرير هذين النهجين مما آلا إليه. لكن ما يدعوني لإعادة نشره ليس تعير الثورة في مستواها السياسي فحسب بل خاصة ما كشفته الموجة الثانية من تعفن أصاب الأعماق إلى حد جعل العلاج يكاد يبدو داعيا إلى اليأس.

 

فما أثبتته الموجة الثانية بصورة ناصعة هو أن الفساد والاستبداد المسيطر على النخب وخاصة على من هم أكثرهم سطحية ممن يتصورون العناوين والشهادات كافية للدلالة على الفهم أشد انغراسا في النفوس وأعمق أثرا وأعسر على الاقتلاع مما سيطر على الأنظمة السياسة نفسها: يكفي نظرة خاطفة على من يحيط بالسيسي في الأنظمة العسكرية ومن يحيط بمن يماثله في بقية الأنظمة حتى نعلم طبيعة العقبات التي تعترض الثورة.

 

فما كانت الأنظمة الفاسدة والمستبدة بنوعيها القبلي والعسكري في دار الإسلام لتصمد أمام ثورة الشعوب الساعية للتحرر من التبعية ولتحقيق الحرية والكرامة لو لم تكن النخب التربوية والثقافية والإعلامية باسم حداثة قشرية أو باسم أصالة أكثر منها سطحية لم تتحالف معها ضد الشعوب للمحافظة على الفتات الذي يرمي لها به هذه الأنظمة لتقوم بمهمة تشويه الوعي وتثبيط العزم: والغريب أنهم يهزأون في جلساتهم الخاصة بسذاجة الحكام ولعل هؤلاء في جلساتهم يموتون ضحكا على صغارهم وتفاهتهم. ويكفي أن تقرأ جدلهم الذي أندم أحيانا حتى عن الالتفات إليه حول توافه الامور وإهمالهم أهم ما يوجه إليه عدو الأمة سهامه:

 

وحدة جغرافيتها لمنع تنميتها المادية بالدويلات المحميات والاقتصاديات التوابع.

 

ووحدة تاريخها لمنع تنميتها الروحية بالفلكلورات السياحية والنخب النوادل.

 

واساس الوحدتين والتنميتين أعني أصل روحانيتها وحصانتها الحضارية.

 

من المخاطَب بهذا الكلام

أعلم أن الجميع يشكو من تعقيد هذه المحاولات ومن طولها. والكل يتصور أن وسائل الاتصال الاجتماعي ليست مؤهلة لهذا النوع من الخطاب. لكن المستحوذين على أدوات الفعل الرمزي أعني الاستعمار والثورة المضادة ونخبها لم يتركوا لنا غيرها إذ هم يحاصرون كل من يريد أن يذهب إلى الأعماق ليحدد طبيعة الإشكالية التي علينا علاجها. لذلك فلم نجد من سبيل لمخاطبة شباب الأمة وقيادات ثورتها إلاها. وإذا كنا نريد أن نؤسس لثورة يعمل شبابها على دراية وتقود قياداتها على علم فلنسلك ما نستطيع إليها من سبيل. والمعلوم أن من لم يكن له الصبر على القراءة وإرادة الفهم لا يمكن أن يكون ثائرا فضلا عن أن يكون قائدا.

 

فلا يمكن لشباب الثورة ولا لقياداتها أن يفخروا دائما بشاعرية أمتهم التي بدأت تأسيس ثورتها الكونية الأولى على خطاب القرآن الكريم وسنة مبلغه العظيم وتثمير ما تقدم عليها من حضارات الأمم أن يعتقدوا إمكان الاستئناف في ثورتها الثانية بخطاب فاقد للتأسيس النظري الذي يحاول أن يرقى إلى خطاب الروح السابق أساسا لغايات الثورة الدائمة بما يقدر عليه من خطاب العقل اللاحق أساسا لأدواتها البنيوية أو بقطيعة مع ما حققه التاريخ الإنساني من تقدم علمي وعملي يحققان شروط العلاقة بالطبائع علما بقوانينها وشروط العلاقة بالشرائع دراية بسننها.

 

طبيعة المرحلة الثورية الحالية

يمكن أن نعرّف ما آلت إليه أمور الثورة العربية الحالية بكونه مرحلة الثورة التحريرية الثانية من التبعية للاستعمار بشكليه اللامباشر والمباشر. فهو جمع بينهما إذ عاد إلى المباشر لفشل اللامباشر بدليل حدوث الثورة الحالية. وما يؤكد فشل الاستعمار اللامباشر هو العودة إلى الشكل المباشر ممثلا بالقواعد العسكرية في أرض العرب والمسلمين كلها وبالتبعية المطلقة للأنظمة العربية والإسلامية بصنفيها:

 

سواء ما كان منها يدعي الدفاع عن القومية والحداثة (أنظمة الانقلابات العسكرية العربية).

 

أو ما كان منها محتميا به منها ويدعي الدفاع عن الإسلام والأصالة (أنظمة الانبعاثات القبلية العربية).

 

فجميعهم بات تحت أقدام نفس الاستعمار الأمريكي والإسرائيلي ولا أتكلم على الأوروبي لأن الأوروبيين تابعون مثلنا حتى وإن كانت تبعيتهم ليست بنفس المعنى ولنفس العلل. وليس ما يجري في الوطن العربي إلا عينة مما يجري في دار الإسلام كلها. وبذلك فوحدة المستعمِر وعملائه وحدتهما بالفعل هي التي باتت بمكر إلهي خير تفرض انتقال وحدة المستعمَر وثواره من القوة إلى الفعل: ذلك أن هذه الوحدة ليست مجرد رد فعل بل المستعمر والعملاء هم الذين يردون الفعل إذ هم يعلمون أن هذه الوحدة سابقة لكونها كامنة في المرجعية وإن كان وجودها فيها بالقوة لذلك فهم الدين يردون الفعل لتجنب انتقالها إلى الوجود بالفعل.

 

لذلك فنحن أمام ثورة شعبية بدأت بالوطن العربي وستعم دار الإسلام ثورة لم تتبين حقيقة رسالتها وطبيعة قياداتها إلا بعد الموجة الثانية من ثورة الربيع العربي الموجة التي بدأت البداية الفعلية بالانقلاب الذي حصل في مصر رغم أن إرهاصاتها بدأت بعدُ منذ انقلاب العسكر في الجزائر أعني رفض الاستعمار لكل محاولات التحرر العربي والإسلامي حتى بمنطقه هو نفسه أي بالمنطق الديموقراطي.

 

وبذلك فالاستعمار هو نفسه الذي يفرض على شعوبنا ألا تقتصر ثورتهم الحالية على المحاولات السلمية التي يفشلها دائما بالانقلابات العسكرية التي تمولها محمياته العربية لأنه لا يريد للمسلمين أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم بل يريد أن يعين لهم من عملائه من يحكمهم بل وأن يحدد بدلا منهم حتى خياراتهم الوجودية والحضارية: لذلك فهو يقنعهم يوما بعد يوم أن الثورة الحقيقية لا يمكن أن تكون مخيرة بين الطرق السلمية والطرق القتالية. فبوصفها ثورة سياسية لا بد لها من الجمع بين بعدي كل سياسية فتسلك كلتا الطريقين بالتلازم وفي آن:

 

لكن إذا كان الاستعمار قد كفانا مؤونة إقناع من اختار نهج السياسة المسالمة بضرورة المقاومة المسلحة فجعل المهمة يسيرة.

 

فإن إقناع من اختار المقاومة المسلحة بضرورة جعلها أداة لخطة سياسية هدفها تحقيق التحرر من التبعية وليس تكوين إمارات طائفية هو المهمة الأعسر.

 

ذلك أن الاستعمار نفسه مباشرة وبعملائه من الثورة المضادة هو الذي يفرض على شعوبنا أن تجمع قواها فتسعى إلى التوحيد الاستراتيجي لتحررها من الفصام المرضي الذي تعاني منه منهجيات التحرير التي باتت عاجزة لكونها قابلت في نفس المرجعية بين:

 

من اختار الفهم الاجتهادي (السياسي).

 

ومن اختار الفهم الجهادي (القتالي).

 

بسبب نفس سوء الفهم للعلاقة بين الديني والسياسي. فالأول تصور أن الاجتهادي يمكن أن يكون ذا أثر من دون البعد الجهادي. والثاني تصور أن الجهادي يمكن أن يكون ذا أثر من دون البعد الاجتهادي. وبمجرد فهم هذه العلاقة بين الموقف وشروط أثره تحصل الوحدة بين كل الحركات الإسلامية التي صار النزاع معها ليس على خياراتها السياسية بل على طبيعة مرجعيتها ذاتها بحيث يمكن القول إن الحرب العالمية الأولى الحقيقية بين الخيارات الحضارية ذات المرجعيات المختلفة لم تبدأ إلا بعد انتهاء الحروب ضمن نفس الخيار الحضاري الواحد أعني الحروب التي دارت ضمن الحضارة الغربية والتي بلغت ذروتها بين خياريها الفلسفيين الرأسمالي والاشتراكي.

 

التأسيس النظري لوحدة الاستراتيجية

لذلك فنحن أمام ضرورة الحاجة إلى التأسيس النظري لهذا الجمع بين تيارات الإسلام في ثورة التحرير من التبعية الحضارية أصلا لكل التبعيات السياسية والاقتصادية التربوية والثقافية. ولعل الثورة المضادة بما قد عرفت نفسها حربا على أصل المناعة الحضارية قد بدأت فوحدت صفها وأعلنت الحرب على كل الحركات الإسلامية دون تمييز بين جهادي وعلمي أو بين قتالي وسياسي وفرضت على الجميع ضرورة الخيار بين القبول بالعبودية والتخلي عن كل مقومات ذاتها أو التوحد حول مفهوم للثورة التحريرية يجمع بين بعدي السياسي الذي هو في آن اجتهادي وجهادي حتما سواء كانت مرجعيته دينية أو فلسفية.

 

فلا معنى لحركة ثورية تحريرية حتى عند اعتبار مرجعيتها فلسفية وليست دينية أن تكون سلمية فحسب أو حربية فحسب بل لا بد لها من الجمع بين بعدي السياسي أعني العمل بأدوات تحقيق الإرادة التي هي سلمية ولطيفة حينا وحربية وعنيفة حينا آخر بحسب ما تستعمله الإرادة المقابلة من وسائل وطرق في التنافس بين الأمم على تحقيق شروط حريتها وكرامتها. لذلك فهذه المحاولة هي بداية لتأسيس توحيد حركات التحرر الإسلامية التي بينت الموجة الثانية من الثورة العربية الحالية أنها هي التي ستقود الثورة بعد أن حال العدو الاستعماري وعملاؤه بين شعوبنا وما يسعون إلى تحقيقه من قيم حديثة متحررة من التوظيف الاستعماري تبين أن المدافعين الوحيدين عنها هم عينهم المدافعون عن القيم الإسلامية الكونية لأن غيرهم ممن كان يتكلم مجرد على الديموقراطية وحقوق الإنسان سوءا كان ليبراليا أو يساريا فضلت غالبيته الانضمام إلى الثورة المضادة والانقلاب العسكري فاتحد التأصيل المتحرر من انحطاط الذات والتحديث المتحرر من انحطاط العدو الذي بات يفضل عدم التحديث المتحرر من انحطاطه لحربه على التأصيل المتحرر من انحطاط الذات.

 

ما عليه حركات التحرر الإسلامية

حضرت يومي 21 و22 من هذا الشهر ندوة حول الوهابية والسلفية في الدوحة. وقدمت ورقة حول ما أطلقت عليه اسم السلفية المحدثة التي تعني التحول الكيفي في فرق السنة بفضل اللقاء والتكامل بين فكر ابن تيمية (تجديد الحنبلية) وفكر ابن خلدون (تجديد الأشعرية) في التأسيس النظري لفلسفة دين وفلسفة تاريخ تقطعان مع الميتافيزيقا النظرية والعملية التي كانت سائدة في الفكر الإسلامي السابق ببعديه الكلامي الفقهي والفلسفي الصوفي بعد أن فشلت محاولة الجمع بين الأشعرية والحنبلية في كتابات الأشعري الأولى. وكانت المفاجأة في ما سمعته من المداخلات ضارة وسارة في آن:

 

فهي قد كانت ضارة لأن العروض التي استمعت إليها كشفت أن كل الحركات السلفية في دار الإسلام ناكصة بالفكر الإسلامي ليس بالقياس إلى عصرنا بل هي ناكصة حتى بالقياس إلى هذين المفكرين. وإذن فتخبطها الحالي في المجال السياسي وبناء الأمة ليس وليد الصدفة ولا هو نتيجة لقوة الأعداء بل هو نتيجة حتمية لسذاجة فكرية سأحاول تحديدها في هذه الملاحظات السريعة التي تؤكد ما سبق أن استنتجته حتى من سلوك الحركات الإسلامية التي تشارك في السياسة ولا تسمي نفسها سلفية مدعية أنها قد تبنت الفكرة الديموقراطية.

 

لكنها كانت سارة لأن جل الباحثين أكدوا أن هذه الحركات بدأت تدرك أنها في وضع تخبط وأنها سلكت طرقا لن توصل إلى المنشود بل هي تؤبد الموجود وتقوي الأعداء بدلا من أن تضعفهم إذ إنها-كما هو بين في جميع بؤر الصراع البارد كما في الأقطار التي أدمن أصحابها على المناورات السياسية قصيرة النظر أو الحامي كما في الأقطار التي أدمن أصحابها على الغزوات القبلية وخاصة في سوريا- تؤول دائما إلى جعل الحركات الإسلامية بصنفيها السياسي والحربي تحقق حتى عند التغلب على العدو عسكريا الفشل السياسي المحتوم فتنتهي في الغاية إلى تكوين إمارة أكثر تخلفا وخضوعا للاستعمار للحفاظ على بقائها ومن ثم فهي تزيد دار الإسلام تشرذما وتحيي كل حزازات الماضي. ويمكن القول إن المسائل المحيرة تقبل الرد إلى مسألتين كلتاهما تتفرع إلى فرعين.

 

المسألة الأولى: طبيعة العلاقة بين الديني والسياسي

فالمسألة الأولى التي تحير كل من يريد أن يفهم علل ما عليه الحركات الإسلامية عامة والسلفية خاصة في علاج شؤون الأمة علاجا متخبطا يجعل الجماعة تراوح مكانها بل وتزداد تخلفا وتبعية تقبل الصوغ التالي: ما الذي يجعل كل الحركات الإسلامية سلفية كانت أو غير سلفية تعتبر التلازم بين الديني والسياسي في الإسلام يعني العلاقة المباشرة بينهما وحتمية الجمع بينهما في يد واحدة بحيث ينبغي أن يكون أصحاب السلطة الدينية هم عينهم أصحاب السلطة السياسية؟ ولهذه المسألة فرعان مقومان من منطلق الديني نحو السياسي ومن منطلق السياسي نحو الديني:

 

الفرع الأول:

لماذا بقيت الحركات الإسلامية بأصنافها الأربعة أعني السلفية بصنفيها العلمي والجهادي والإخوانية بصنفيها السياسي والجهادي ذات موقف وسلوك بدائيين فلم تفهم قياداتها طبيعة العلاقة بين الديني والسياسي والطابع غير المباشر لفعل الديني في السياسي. فأثر الديني في السياسي ليس مباشرا بل هو غير مباشر بمعنى الحاجة إلى وسائط ناقلة ذهابا بينهما وإيابا باعتبارهما حدين لا يلتقيان إلى بفضل هذه الجسور المتوسطة بينهما. والتوسط يكون من خلال بعدي التحديد القرآني لهذه العلاقة:

 

دور الدين في التربية تكوينا للإنسان يمكنه من السلطان على أدوات الفعل على علم بقوانين الطبيعة وبسنن التاريخ: لأنه لا يمكن أن يكون الإنسان مستعمرا في الأرض بمجرد التعبد بل لا بد له من العلم بقوانين الوجود الطبيعي والتاريخي حتى يكون التعمير ممكنا.

 

ودور الدين في الثقافة بيئة لعلمه وعمله تمكنه من السلطان على أخلاق العمل والعمل بقوانين الطبيعة وبسنن التاريخ: لانه لا يمكن للإنسان أن يكون مستخلفا في الأرض إذا كان على السذاجة غير دار بشروط الشرائع التي تحقق أفضل شروط التعاون.

 

وهذا التوسط الأداتي والخلقي هو الذي يؤسس لعلاقة بين السياسي من حيث هو علاج للشؤون الإنسانية بمرجعية قيمية متعالية يمكن أن تكون ذات عبارة دينية أو فلسفية. لكنها في الحالتين متعالية على المباشرة من حيث دور المتعاليات في تحديد فكر الإنسان وحكم خياراته القيمية والسياسية من حيث علاقتها بشروط البقاء والجدارة.

 

الفرع الثاني:

لماذا بقيت هذه الحركات بدائية وساذجة كذلك فلم تفهم الطابع غير المباشر لفعل السياسي في الديني أعني لاتجاه التفاعل الثاني. فأثر السياسي في الديني ليس مباشرا بل هو كذلك غير مباشر. وهو يكون من خلال دور الممارسة العملية للسلوك المعبر عن المرجعية القيمية ومن خلالها يختبر الإنسان ما تحققه معرفته بقوانين الطبيعة وبسنن التاريخ فيراجع مراجعة نقدية متواصلة التربية والثقافة اللتين تنقلانه من المرجعية القيمية التي تحدد الغايات إلى السياسة التي تحدد الأدوات. فالسياسي تجربة متواصلة لمسعى الإنسان نحو تحقيق القيم اجتهادا بالعلم وجهادا بالعمل.

 

المسألة الثانية: علل توقف الإبداع

أما المسألة الثانية التي هي ذات فرعين مقومين كذلك وهي من توابع المسألة الأولى. فهي تتعلق بعلل توقف الإبداع وبعلل تخلف فكر الإصلاح والنهضة اللذين يراوحان مكانهما منذ قرنين.ذلك أن فكر الإصلاح ما يزال إلى الآن ليس دون ما وصل إليه الفكر الإنساني الآن بل هو دون الذروة التي وصل إليها الفكر العربي الإسلامي في لحظة ابن تيمية وابن خلدون وحتى في لحظة ابن حنبل والأشعري. ويقبل فرعا هذه المسألة الثانية الصوغ التالي:

 

أ-لماذا توقف الفكر النظري المبدع للوسائط الرمزية والتقنية في الإسلام السني بشقيه السلفي والأشعري منذ القرن الثامن الهجري-الرابع عشر الميلادي ولم يبق إلا التخبط العملي الذي لا يتجاوز الفتاوى والجهاد البدائي أعني القتال عديم الأرضية العلمية والتكنولوجية والأشبه بفزعات الهنود الحمر؟ ولعل أفضل دليل على ذلك إهمال الجانب الفلسفي من فكر ابن تيمية وابن خلدون والاقتصار على فتاوى الأول وبعض حلول الثاني نتائج بلا مقدمات لأنها في الحقيقة أسقاطا لبعض ممضوغات الفكر الحالي عليه دون فهم لها فضلا عن فهم أفكارها كما تتحدد بما يعين دلالتها في نسقها العميق.

 

ب-لماذا كان الفكر الإسلامي السني من بداية حركة الإصلاح في القرن التاسع عشر إلى الآن ليس هو دون فكر عصره فحسب بل هو دون فكرنا في الماضي؟ فلا مؤسس الوهابية (محمد بن عبد الوهاب) ولا مؤسسو الإصلاح على كثرتهم (من محمد عبده خير الدين التونسي) بقابلين للمقارنة المعرفية والفكرية بابن تيمية وابن خلدون ولا حتى بابن حنبل والأشعري؟ فجميعهم لا يتجاوز فكرهم الذهاب المباشر لما يتصورونه إصلاحا حصرا للعلاج في أعراض المرض للجهل بشروط العلاج وإهمالا لعلل الداء؟ لذلك ترى ورثتهم يتصورن الجهاد قتالا بدائيا ليس فيه إلا آخر مراحله من دون أدواته وهو ما يعلل ما يسمى بالاستشهاديين والفزات البدائية والقيادات لا متناهية التفتيت لأن الحرب تصبح حرب قبائل متناحرة لا واحدة منها تقبل بقيادة الأخرى كما نرى ذلك في كل أراضي المسلمين المحتلة من العدو مباشرة أو من عملائه من أفغانستان إلى فلسطين وسوريا:

 

ما يقتضي أولا حصر المعارك في القتال المباشر كالحال في معارك القبائل البدائية بالسيوف والنبال: وهم يتصورون ذلك شجاعة وهو في الحقيقة ملجأ فاقد الحيلة لأن الشجاعة هي القدرة على صنع الأسباب ثم العمل بها وبمقتضى استراتيجية تجعلها قادرة على تحقيق أكبر النتائج بأقل كلفة وهو مبدأ اقتصاد الحروب.

 

وما يفرض ثانيا ألا يكون إلا قتالا دفاعيا لا يحصل إلا بقدوم العدو إلي المقاوم واحتلاله أرضه وهتك عرضه: وذلك لأنهم يتقاسعون بمنطق دعها حتى تقع وعندما تقع يجدون أنفسهم فاقدين للحيلة لأنهم لم يعملوا بالآية 60 من الأنفال.

 

ولعلنا بالجواب عن هذه الأسئلة نتمكن من تجاوز أزمة الفكر الإسلامي عامة وما يترتب عليها من الفعل الساعي إلى تغيير واقع المسلمين عامة بأدوات وطرائق بدائية لن تزيدنا إلا تخلفا وتشتتا. ذلك أنه بالوسع أن نعالج مسالة الفكر السلفي بفرعيه الحنبلي والأشعري وما يتصف به من تخبط فنرجع العلة إلى ترديه دون المستوى الذي بلغ إليه صوغه لإشكاليات الحضارة العربية الإسلامية في ذروة مساءلتها لنفسها سعيا منها لفهم علل ما أصابها من انحطاط. ذلك أن المسألة كانت قد ردت في فكر ما نسميه بالسلفية المحدثة إلى العلاقة بين فلسفتين:

 

أولاهما نظرية تتعلق بالنظر أي بالإيمان والطبائع (عند ابن تيمية). وما كان ينبغي أن يترتب على نقد تحريف الفكر النظري في العلاج الكلامي والفلسفي ونتائجه الفقهية والصوفية بدلا من اعتبار الفكر النظري ذاته أمرا منافيا للدين ومن ثم ترك الجماعة منزوعة السلاح المادي سواء في ما يتعلق بدور العلم النظري بقوانين الطبيعة أو بصلتها بسنن التاريخ فتصبح عاجزة في سد الحاجات المعيشية والدفاعية.

 

والثانية عملية وتتعلق بالعمل أي بالأخلاق والشرائع (عند ابن خلدون). وما كان ينبغي أن يترتب على نقد تحريف الفكر العملي في العلاج الفقهي والصوفي ونتائجه الكلامية والصوفية بدلا من اعتبار الفكر العملي ذاته أمرا منافيا للسياسة ومن ثم ترك الجماعة منزوعة السلاح الرمزي سواء في ما يتعلق بدور العلم العملي بسنن التاريخ أو بصلتها بقوانين الطبيعة فتصبح عاجزة على تنظيم شؤونها تنظيما سلميا يمكن من سد الحاجات المعيشية والدفاعية.

 

علة هذا النكوص الواحدة

فكيف نفسر هذا النكوص في الفكر الإسلامي الذي تعتمد عليه الحركات الإسلامية بجميع أصنافها سواء كانت إحيائية اختارت المشاركة في المسارات السياسية لأقطارها (مثل الحركات التي من جنس الإخوان) أو سلفية اختارت الابتعاد عن المسار السياسي في أقطارها إما باسم الجهاد أو باسم العلم المتعاليين على الأقطار والشاملين لدار الإسلام أو سلفية التبرير لسلوك من تسميهم أولياء الأمر مهما فعلوا بالمسلمين وبدار الإسلام؟

 

تبين أن العلاج النظري عند ابن تيمية قمة للفكر الإسلامي النظري. والداء الذي ينبغي علاجه هو ما جعله يتحول إلى ضديده فيصبح نافيا للفكر الذي نقده وليس لما ألم به من عيوب. كما تبين أن العلاج العملي عند ابن خلدون قمة للفكر الإسلامي العملي. والداء الذي ينبغي علاجه تحول بنفس المنطق إلى فهم مقصور على العصبية البدائية. عند ممثلي الفكر النقدي الإسلامي للانحراف الذي طرأ على الكلام والفلسفة والفقه والتصوف وعلى أصلها جميعا أعني تفسير القرآن الكريم بقي من جنس الفكر الذي لا يتجاوز منطق سد الذرائع: لم يكن النقد تحريرا من الانحراف بل آل إلى نفي الأمر المنقود نفسه وليس انحرافه. فأصبح العلم النظري (ابن تيمية: التفلسف زندقة) والعلم العملي (ابن خلدون: الأفضل أن يكون الحاكم أميا) لذاتهما وبذاتهما يعتبران خطرا على الأمة في حين أنه كان من المفروض أن يفهم أن سلامتها مشروطة بهما بشرط أن يكونا محققين لدورهما في سد الحاجات المعيشية والدفاعية مع تحقيق معاني الإنسانية التي تجعل الحياة جديرة أن تحيا.

 

والجواب عن هذا السؤال يحتوي على مفارقة عجيبة تتمثل في الفهم الساذج لعلاقة الديني بالسياسي عند القائلين بالوصل بينهما والقائلين بالفصلعلى حد سواء 1 العلاقة التي جعلوها مباشرة بسبب هذا النكوص حتى عما توصلت إليه السلفية المحدثة (ابن تيمية وابن خلدون) أولا وبسبب فهم حركة الإصلاح والنهوض السطحي ثانيا بسبب رد الفعل على العلمانية التي هي بدورها فهم سطحي للفرك الغربي الذي لا يفصل بين الديني والسياسي بل هو يصل بينهما بما ينبغي أن يكون الوصل أعني بالوسائط بين تحديد الغايات وتحديد الأدوات أخيرا:

 

نكصوا عما فهمته السلفية المحدثة خاصة ابن تيمية وابن خلدون رغم ما فيهما من قصور هما بدورهما إذا لم يتجاوزا منطق سد الذرائع وحتى ما كان شبه بين قبلهما عند الغزالي وجل مفكري الإسلام الذين عالجوا هذه العلاقة بوصفها ذات وسائط وليس علاقة مباشرة مثلها مثل العلاقة اللامباشرة بين الفلسفة النظرية والفلسفة العملية. لكن هذه الحركات جعلت العلاقة بين الديني والسياسي علاقة مباشرة فأهملت الوسائط بين فاعلية الديني وفاعلية السياسي. وتلك هي العلة التي جعلت أصحاب العلم الديني المزعوم يريدون أن يكونوا في آن أصحاب العمل السياسي المزعوم سلما أو حربا: تصوروا أنفسهم في غنى عن الوساطة لزعمهم أنهم ورثة الأنبياء. وبذلك فقد جعلوا الدين سياسة تماما كالحال عند الشيعة2.

 

لكن ما وطد هذا النكوص وزاده دعما هو تصديق الحركات الإسلامية لسخافات الفكر العلماني العربي الذي لم يفهم هو بدروه طبيعة العلاقة بين الديني والسياسي في الغرب. فشتان بين الطبيعة اللامباشرة للعلاقة بينهما وبين الفصل المزعوم الذي يدعونه بمعنى أن الديني مقدس وفوق التغير والسياسة يمكن أن تدنسه وأن تؤرخنه إذا اتصلت به. وهذا القول فضلا عن كونه تقية يراد بها عدم مصادمة الدين مصادمة مباشرة فإنه دليل على عدم فهم طبيعة الديني والسياسي والعلاقة بينهما فضلا عن عدم فهم العلاقة بين التاريخي والمتعالي عليه.

 

العلاقة اللامباشرة بين الديني والسياسي

صدقت الحركات الإسلامية التي ذكرنا خرافة العلمانيين المزعومين عن علاقة الفصل بين الديني بالسياسي في الغرب فأصبح التوكيد على الوصل المباشر بينهما رد فعل طبيعي عندهم يجعلهم يختارون نقيض قول العلمانيين ظنا منهم أن هذه العلاقة في الإسلام تتحدد بالتضاد مع العلاقة كما تراها العلمانية التي يتصورونها مطابقة لحقيقة العلاقة بين الديني والسياسي في الحضارة الغربية. ولست أدري كيف يمكن أن يكون الغرب بهذا الغباء حتى يقطع مع أساس النظام سواء صيغ دينيا أو فلسفيا أعني تعالي الغايات على الأدوات في كل حضارة لكون الثانية هي من أجل الأولى. وبذلك فالعلة هي:

 

بالجوهر النكوص عما أدركته السلفية المحدثة من طبيعة العلاقة بين الديني والسياسي.

 

وهي بالعرض تصديق لما تقوله العلمانية غير المدركة لحقيقة هذه العلاقة بينهما في الغرب.

 

علينا إذن أن نبحث في طبيعة العلاقة اللامباشرة بين الديني والسياسي كما فهمها مؤسسا السلفية المحدثة أقصد ابن تيمية وابن خلدون مع ضرورة التحرر مما سيطر على فكرهما من منطق أقرب إلى سد الذرائع المنطق الذي حد من ثورتهما الفلسفية. علينا أن ننطلق من هذه الطبيعة بمقتضى حقيقتها في كل الحضارات. فلا يمكن لما هو مقوم بنيوي في الوجود الإنساني (العلاقة بين مستوى تحديد الغايات ومستوى تحديد الأدوات) أن يختلف بالجوهر حتى وإن تمايز بالعرض بحسب ظرفيات التعين الحضاري: العلاقة بين الديني والسياسي بما هما مستويا تحديد الغايات وتحديد الأدوات مقوم جوهري ثابت مهما تغيرت أعراضه وأشكاله في تاريخ التنظيم الاجتهادي للشأن الإنساني الفردي والجمعي.

 

وهذه الحقيقة هي ما توصل إليه مؤسسا السلفية المحدثة ابن تيمية وابن خلدون وما كان ينبغي تحريره من منطق سد الذرائع حتى لا يتحول نقد الانحراف إلى قتل ما أفسده التحريف بدلا من إحيائه بعد تخليصه منه. ولا أحد منهما يمكن أن يعد علمانيا بالمعنى الساذج لعلمانيي العرب. فهما قد أدركا الطبيعة اللامباشرة بين الديني والسياسي والوسائط الواصلة بينهما في المستوى المؤسسي والوظيفي وفي مستوى فعله في الأذهان (المواقف القيمية والتربية) وفي الأعيان (التقاليد الخلقية والثقافة) حتى وإن لم ينتقلا من النقد إلى البناء لكون منطق سد الذرائع جعلهما يفران خوفا من نتائج ما توصلا إليه من ثورة:

 

ويكفي أن نتصور ما كان يمكن أن يحصل لو أن نظرية ابن خلدون في التربية التحررية تحققت فخلصت الإنسان المسلم مما وصفه بفقدان معاني الإنسانية بسبب التربية غير التحررية.

 

أو أن نتصور ما كان يمكن أن يحصل لو أن نظرية ابن تيمية في الشرعية المعتمدة على سلطة الشعب في انتخاب أولى الأمر بحرية سواء كانوا أمراء سياسيين أو علماء دين لأداء ما يصفه بالأمانة والمسؤولية.

 

لكن ذلك كله ذهب أدراج الرياح بسبب الانحطاط الذاتي ثم تواصل بسبب الانحطاط المستورد الذي نتج عن أنظمة الاستبداد والفساد سواء كانت قبلية أو عسكرية خلطا منها جميعا بين البناء الحضاري الذي يتأسس على حرية الإنسان وكرامته ومجرد الركام المادي للتحضير السطحي كما فهمه مقلدو الخواجات في نمط عيشهم وليس في أسباب تقدمهم العلمي والتقني والسياسي والاجتماعي. وكان من الطبيعي أن يكون الأمر الإقدام على القبول بنتائج فكرهما والبناء عليها لو كان الإصلاحيون بحق مؤمنين بشروط القيام المستقل خاصة إذا سلمنا بما تدعيه الحضارة العربية الإسلامية من كونها حضارة ذات رسالة كونية خاتمة ونظرنا في شروط المطابقة بين ممارستها التاريخية وما أسسته رسالتها فضلا عن الممارسة الفعلية في التاريخ الإنساني والتاريخ الإسلامي حتى في أزهى مراحله.

 

العلاج المقترح من تاريخ مؤسساتنا السياسية

وليكن كلامنا جامعا بين ما حدث في الممارسة التاريخية وما يترتب على طبائع الأمور أي بمستوى الفعل المؤسسي الذي تتعين فيه الوسائط بين الديني والسياسي. فما أن تأسست الدولة الإسلامية حتى تدرجت في تكوين أركانها فحصل بالتدريج التمايز ببين الديني والسياسي بالتناسب مع التدرج التكويني في تحقيق الوسائط التي تمثل التعين الفعلي لطابع اللامباشرة بين الديني والسياسي. ولنكتف بذكر الغاية التي انتهت إليها هذه العلاقة كما وصفها ابن خلدون في كلامه على تقاسم الخطط بين الخليفة والسلطان بمقتضى التراتب بين مقومي الدولة أعني الشرعية والقوة:

 

فأصبح للخلافة الدور الرمزي أو الدور الذي تتقدم فيه شرعية الدولة على قوتها.

 

وأصبح للسلطنة الدور الفعلي أو الدور المقابل الذي تتقدم فيه قوة الدولة على شرعيتها.

 

وبذلك يتراتب مقوما هذه العلاقة التي هي جوهر الوجود التاريخي الروحي والمادي في آن لأي جماعة بشرية سواء كانت ذات دين منزل أو ذات دين طبيعي أو حتى مدعية أنها بلا دين. وأفضل الأنظمة هي التي تحقق فيها النموذج الأمثل لهذه العلاقة سواء كانت ملكية أو جمهورية كما هو بين في عصرنا الحالي بشرط أن يتم الانتقال من مبدأ التداول بالصراع البدائي العنيف (الانقلابات والحروب) إلى الصراع الحضاري اللطيف (الانتخابات والتداول السلمي):

 

فالسلطان الرمزي يمكن أن يكون سلميا سواء جاء عن طريق الانتخاب غير المباشر من الشعب كما في ألمانيا وإيطاليا مثلا أو عن طريق الوراثة كما في بريطانيا وهولاندا مثلا. والسلطان الفعلي حتى يكون التداول عليه سلميا لا بد أن يكون عن طريق الانتخاب المباشر من الشعب. وكلما كانت هذه العلاقة فاقدة للتوازن بين المقومين كان النظام أميل إلى الاستبداد المادي أو الروحي أو إليهما معا. وقد وصل التطور المؤسسي في حضارتنا إلى جعل الخلافة ذات سلطان رمزي والسلطنة ذات سلطان فعلي. لكن الأولى ظلت وراثية والثانية بقيت خاضعة لسلطان القوة العنيفة لأن الحائزين عليها من المتغلبين وليسوا من المنتخبين:

 

خطط الخلافة وهي شرط الوجه المعنوي من سيادة الدولة أو الشرعية الخلقية للحكم عامة: 1-إمامة الصلاة (رمز السلطة الروحية) 2 الفتيا (الحكم الرمزي)= التعليم الديني والقيادة الروحية للرأي العام) 3-العدالة (توثيق العقود والالتزامات) 4-الحسبة (مراقبة المعاملات) 5-السكة (استقلال العملة على إرادة السلطان).

 

خطط السلطنة وهي شرط الوجه المادي من سيادة الدولة أو الشرعية الفعلية للحكم عامة: 1-الإمارة (رمز السلطة السياسية) 2-الوزارة (الحكم الفعلي=إدارة الشأن العام) 3-الحرب (تثبيت الحقوق) 4-البريد (المخابرات الأمنية) 5-الخراج (مصدر تمويل الدولة).

 

والملاحظ أولا وجود التوازي بين الخطط أو التناظر بينها فما تؤديه الواحدة في المستوى الرمزي والمعنوي تؤديه نظيرتها في المستوى الفعلي والمادي. لذلك فالتقاسم يعني أن الدولة ليست كيانا سياسيا ماديا فحسب بل هي كيان خلقي روحي وذلك في جميع المجتمعات البشرية بما هي مجتمعات بشرية سواء كانت ذات دين منزل أو عديمته.

 

والملاحظ ثانيا أن الجمع بين الوجهين الديني والسياسي دون فصل لا يوجد إلا في مسألتين هما القضاء والشرطة. فهاتان الخطتان مشتركتان مباشرة بين الديني والسياسي والعلة هي أنهما غير قابلتين للفصل بسبب كونهما تحتاجان في آن إلى الترتيبين في آن. فمن حيث الأساس أولاهما تنطلق من الشرعية الرمزية وتحتاج للتحقق إلى الشرعية الفعلية. والثانية تنطلق من الشرعية المادية وتحتاج لتكون مقبولة للشرعية الرمزية. وهاتان الخطتان المشتركتان هما القضاء والشرطة:

 

1-القضاء (الخلافة تشريعا والسلطنة تنفيذا):

فالقضاء هو سلطان حكم القاضي ممثلا للقانون فيحتاج إلى القوة ليصبح نافذا. من هنا ضرورة أن يكون تابعا للخلافة حكما وللسلطنة تنفيذا في آن. ومن ثم فهو شرعية القانون وتمثلها الشريعة في الدولة الإسلامية وإذن فهو تابع من هذا الوجه للخليفة. لكن أحكام القضاء تحتاج إلى التنفيذ ومن ثم فلا بد لها من قوة قادرة على تطبيق تلك الشرعية. ومن هنا الاشتراك المباشر بين السلطتين الخلافية والسلطانية.

 

2-الشرطة (شرعيتها من الخلافة ونفاذها من السلطنة).

والشرطة بالعكس هي سلطان فعل الشرطي ممثلا للقانون فيحتاج إلى الشرعية ليصبح مقبولا. من هنا ضرورة أن يكون تابعا للسلطنة تنفيذا وللخلافة تشريعا في آن. ومن ثم فهي شرعية الردع وتمثلها القوة العامة المشروطة بالشرعية وإذن فهي تابعة من هذا الوجه للسلطان. لكن أفعال الشرطة تحتاج إلى الشرعية ومن ثم فلا بد لها من شرعية قادرة على حمايتها من استغلال النفوذ. ومن هنا الاشتراك المباشر بين السلطتين السلطانية والخلافية.

 

العلاقة بين السلطتين الرمزية والفعلية في وظائف الدولة

أما الوظائف العشر الأخرى فطبيعتها تقضي بضرورة الفصل بين السلطتين بالوسائط التي تجعل عملهما متعلقا بمقومات الوجود العمراني دون خلط بين الوظائف مع التكامل الضروري بينها. والأمر الوحيد الذي يحتاج إليه هذه التقسيم هو تحريره من الإيهام بأن هذه الوظائف خالية من الاتصال بين السلطتين وذلك بسبب حصر الأولى في ما يبدو مقصورا على مشاغل الدين وحصر الثانية في ما يبدو مقصورا على مشاغل الدنيا. لكن ذلك مجرد ظاهر من الفهم لأن الوظائف التي تؤديها الخلافة ذات صلة بالسياسي والوظائف التي تؤديها السلطنة ذات صلة بالدين. ولنضرب مثالين يبينان طبيعة العلاقة السوية بحضورها في المعاملات وبغيابها في التعليم:

 

ففي المعاملات يعتبر جعل السكة (العملة) والحسبة (مراقبة المعاملات) تابعتين للخلافة مثلا دليلا على أن الفصل ليس فصلا بين الدنيوي والديني بل هو يهدف إلى تقديم الوازع الخلقي على الوازع المادي لمنع القوي من استغلال الضعيف. فالعملة والحسبة جعلتا تابعتين للخليفة حتى تحافظا على استقلالهما عن إرادة السلطان والتجار الذين يمكن أن يزيفوا شروط التعاوض والتبادل في الجماعة.

 

ومن البين أن هذا التكامل بين الوظائف ومعادلة تقاسمها بين راسي السلطة الرمزي (الخليفة=رئيس الدولة) والفعلي (السلطان=رئيس الحكومة) لم تكتمل بعد وفيها ما يحتاج إلى المراجعة والاستكمال. لكنها مع ذلك تبين الطريق السوية لبناء الدولة التي يدرك أصحابها العلاقة العميقة بين الديني أو سلطان الرمز والباطن والسياسي أو سلطان الفعل والظاهر ولا يفهمونها فهم العلمانيين السطحي بوصفها فصلا أو فهم الإسلاميين الراد عليهم بجعلها إدماجا وتطابقا لا وساطة فيه بحيث يفسد الدين والسياسة في آن.

 

لكن هذه المعادلة لم تكتمل في بناء الدولة الإسلامية لأنها مثلا كانت لسوء الحظ غائبة في التعليم الذي اقتصر على الديني المحض. ذلك أن الاقتصار على دور المراقبة الخلقية والروحية ألغى الدور المؤسس لشروط الفاعلية. ذلك أن حصر التعليم في الديني وخاصة ما يتعلق منه بشرط رقابته على السياسي دون شرط نجاعته في تحقيق شروط الاستخلاف جعل الجماعة عزلاء سواء تعلق الأمر:

 

بعلاقتها بالطبيعة (العجز عن علم قوانينها التي تمكن من استعمار الإنسان في الأرض ومن وسائل الدفاع عن الذات أي الغذاء والدواء).

 

أو بعلاقتها بالتاريخ (العجز عن حماية الذات من الغير سواء كان ذلك ضمن نفس الجماعة أو بينها والجماعات الأخرى: أي القانون والدفاع).

 

وقد ازداد التأثير السيء للتعليم والعلم غياب الوجه الثاني من التعليم الذي يمكن أن يعتبر دنيويا محضا إذا اعتبرنا الأول دينيا محضا إن صح التعبير شرطا في قدرة الجماعة على الامتثال لمطالب الرسالة المحققة لاستعمار الإنسان في الأرض والاستخلاف فيها. فكان ينبغي أن يكون للسلطان أيضا تعليم تابع يتعلق بعلوم الطبيعة وبعلوم التاريخ التي تمكن من تحقيق هاذين المطلبين: فلا يمكن للدولة أن تحقق الاستعمار في الأرض والاستخلاف عليها من دون أسباب ذلك أعني:

 

من دون علوم الطبيعة التي تمكن من تحقيق الشروط التقنية الآلية لسد الحاجات غذاء ودفاعا: العلاقة مع الطبيعة ومع المنافسين على ثرواتها.

 

ومن دون علوم التاريخ التي تمكن من تحقيق الشروط التقنية المؤسسية لسد الحاجات تعاوضا وتنظيما: العلاقة بين المواطنين وبينهم وبين الحكم.

 

وعندئذ يتبين أن الوساطة الواصلة بين الديني والسياسي غابت في التعليم وفي الثقافة فبتر الفكر ولم يعد له أي عمق نظري في علوم الطبيعة والتاريخ. لكن بعضها تحقق في المعاملات بسذاجة لغياب العمق النظري أعني لعدم فهم دور الوساطة التي تصل الديني بالسياسي فتحقق الفصل والوصل الضروريين المحررين من بساطة العلاقة لأنها تبين أنها بالجوهر علاقة غير مباشرة بفضل الوساطات المتخصصة في تحقيق غايات الدين بوسائل السياسة تماما كحال العلاقة بين فلسفة النظر وتطبيقاتها وفلسفة العمل وتطبيقاتها. ويمكن أن نصوغ هذه الوساطات بصورة موجزة في شكل جدول فلها قطبان هما الدين والسياسة وبينهما وصلان في الاتجاهين من أحد القطبين إلى الآخر ذهابا وإيابا:

 

1-فالوساطة بين الديني والسياسي من الأول إلى الثاني هي تكوين الإنسان وتكوين مجاله الرمزي أعني التربية لتكوين الإنسان والثقافة لمجاله الرمزي. فهذان الجسران يصلان متعاليات الدين إلى تكوين الإنسان وتكوين محيطه الرمزي بحيث إن السياسة التي يدير بها شؤونه تكون مطبوعة بما تربى عليه وبما يعيش فيه من مناخ رمزي أو روحي. فتكون ممارسته السياسية محكومة بتربيته وثقافته التي هي بالجوهر دينية حتى لو كانت فلسفية لأنها تكون دائما علاقة بين مثل ووقائع وسعي إلى تقريب الثانية من الأولى3.

 

2-والوساطة بين الديني والسياسي من الثاني إلى الأول هي الموقف النقدي من التربية والثقافة في ضوء هذا المسافة بين المثال والواقع ومن ثم فهي بالذات جوهر السعي الإنساني للارتقاء والاقتراب من المثال فتكون التربية والثقافة كلتاهما ذات وجهين بحسب الاتجاه من الديني إلى السياسي أو من السياسي إلى الديني لكأن العلاقة بينهما من جنس العلاقة بين النظرية والتطبيق4.

 

ويمكن القول إن قسمة الفعل السياسي إلى فعل الحاكمين وفعل المعارضين يمثل هذين التوجهين لأن الحاكم مضطر لتقريب المثال من الواقع حتى يبرر فعله والمعارض مضطر لنقد هذا التقريب حتى يبرر معارضته:

 

فالحاكمون يطبقون فهمهم للمثل على الوقائع فيحتاجون إلى تقريب المثل من الوقائع لضرورة تحقيق ما وعد به. إنه مضطر للخضوع إلى الواقع لأنه يعمل بمقتضى الممكن الفعلي.

 

والمعارضون ينقدون هذا الفهم فيحتاجون إلى ببيان بعد الوقائع عن المثل لضرورة تجاوز ما يقدمه الحاكم. إنه مضطر للتحرر من الواقع لأنه يعمل بمقتضى الممكن الرمزي.

 

والتكامل بين الموقفين هو منطق العلاقة بين المثال والواقع. والتداول بينهما على الحكم وعلى المعارضة هو الذي يحقق الوساطة السوية بين الديني والسياسي إذ كل منهما يتقدم عنده أحد الوجهين الوجه المحكوم بتقديم الغايات والوجه المحكوم بتقديم الوسائل لما يحكم والوجه الثاني لما يعارض. وهذه المعادلة لا يخلو منها مجتمع. وما يتغير ليس بنيتها بل نموذج عملها. فهي تبدأ بنموذج عضوي حيوي في المجتمعات البدائية (التداول الحربي على الحكم) وتنتهي بنموذج مؤسسي حضاري في المجتمعات التي تخلصت من العلاقات البدائية التي يغلب عليها منطق الصدام (التداول السلمي على الحكم):

 

بحيث يكون المعارض أقرب إلى القطب الديني لأن منطلقة هو نقد القطب السياسي بمنطق تحكيم المثال في الواقع.

 

والحاكم أقرب إلى القطب السياسي لأن منطلقة هو نقد القطب الديني بمنطق تحكيم الواقع في المثال.

 

ولا يقتصر هذا التوالي النموذجي على الحكم وحده بل هو يصح على منطق الاستحواذ في الحالة الأولى على المرأة والثروة والسلطة وعلى منطق التعاوض في الحالة الثانية. ومنطق الاستحواذ والأخذ عنوة يغلب على عالم الحيوان ومنطق التعاوض هو المنطق الغالب على عالم الإنسان. فمثلا كان العرب في الجاهلية يغلب عليهم منطق الأخذ عنوة والتغازي وصاروا بعد الإسلام يعتمدون على التبادل والتعاوض في المرأة والثروة والجاه والسلطة. لذلك فالنكوص الذي نتحدث عنه في الحركات السلفية لا يقتصر على السلطة بل هو يتعداه إلى المرأة والثورة. ومعنى ذلك أن السلفية عادت إلى جاهلية العرب رغم أنها تدعي الدفاع عن قيم الإسلام: الإمارات التي تنتج عن سلوكهم ليست إلا قبائل من جنس قبائل الجاهلية.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023