هكذا بات سحرها، يخلب الألباب فى أرجاء العالم، وهكذا صورها، تنتشر مع سريان الهواء، لم يعد هناك مكان لا يعرف "رابعة" وقصتها، ولم تعد هناك عين تخطئ صورتها المرفوعة فى كل مكان.
هذه "رابعة وأخواتها" بعد مائة يوم من غزوها وقتلها وحرقها ودفنها وسط سكرة الإجرام والوحشية، وتصفيق الجنون الدموى والتعطش للدم على شاشات العار، وقهقهات السكارى والمغيبين فى شوارع الضلال والكذب والزور.
هذه "رابعة وأخواتها" بعد مائة يوم من صمودها الإعجازى تزداد قوة وجسارة، وسط شلال الدماء الطاهرة التى تزيد من إشعال الثورة يوماً بعد يوم، وتحرق الفرعون المجرم محققة انتصاراً تلو انتصار، وتلحق بالعسكرى الخائن العار والشنار، وتقرع عقول الغافلين والتائهين؛ فتتواصل زخات الوعى نحو إسقاط الانقلاب.
"رابعة" فتحت صفحتها الأولى فى التاريخ عبر تلك التائبة الناسكة المتعبدة "رابعة العدوية"، وكان كل حظها من اهتمامنا فيلماً سينمائياً مائعاً وباهتاً يتم بثه كل عام بمناسبة العام الهجرى الجديد، ثم بقيت مسجداً فى إحدى ضواحى مدينة نصر شرقى مدينة القاهرة، لكنها صنعت التاريخ يوم انقلاب الثالث من يوليو الخائن الفاشى عندما تحولت إلى قاعدة صلبة لمقاومة ذلك الانقلاب سلمياً، ومنذ ذلك اليوم باتت "رابعة" ميداناً للصامدين، وقبلة للأحرار، وجامعة لتعليم الأحرار فنون الثورة، ومسجداً للقائمين والقانتين، وساحة للجهاد السلمى والاستشهاد فى سبيل الحرية، باتت "رابعة" تحتضن فى ترابها دماء ورفات آلاف الشهداء والجرحى، وتحتضن فى أجوائها حرائق ودخان حرق الجثث، وفى سمائها أيقونة تتلألأ، وتحتفظ فى جنباتها حالك السواد بأسماء لقتلة اسماً اسماً، بدءاً من قائد الانقلاب، ومروراً بمن جلسوا تحت قدميه على منصة الانقلاب، وبمن موَّلهم وفتح لهم خزائنه، وانتهاء بمن فوَّض ورقص وغنى احتفاءً بقتل النفس التى حرَّم الله قتلها، وانتشاء بالدخان المتصاعد من الجثث المحترقة، وفى منتصف ميدانها يقف نصب تذكارى شيده القتلة ليكون شاهداً عليهم وعلى ذيولهم إلى يوم الدين.
قال إعلام العار عنها يوم قامت: إنها لا تعدو أن تكون "إشارة أتوبيس" فى شارع، انتقاصاً من قدرها، وتقليلاً من عدد وشأن روادها، لكن حكمة الله اقتضت أن تتحول إلى "إشارة" باتت –وستظل- تتلألأ فى سماء الكون، وأيقونة تتربع على عرش الحرية، باتت – وستظل- لعنة على الخونة وذيولهم، وستظل لعناتها تطاردهم حتى السقوط تحت أقدام الثورة.
"رابعة"، يا ابنتى وابنى، يا أمى وأبى، ويا صديقى وأخى، سامحينى فلم أمتلك سوى كلمات تتدفق حتى يجف المداد، ودموع تنهمر حتى تجف المآقى وتتحجر، ملايين الكتب من الكلمات وأنهار الدموع لا توفّى قطرة دم واحدة روت ترابك، ولا تساوى ظفر شهيد دُفن فى ثراك.