عاش المصريون ليلة الأحد – الاثنين أمام شاشات التلفزيون في انتظار لحديث الرئيس المنتخب. تحول الانتظار إلى حالة من التنكيت والتبكيت، ويكاد يحصل مرسي على جائزة النكتة السياسية التي يتميز بها الشعب المصري في مواجهة حالات الهزل السياسي، ولتبقى النكتة لدى الشعب المصري هي سلاح شعبي يرفع ويسقط من يشاء، ومع تنوع التعليقات كان أشدها عندي تعليقا مع بداية إذاعة الحديث، دعا إلى إغلاق التلفزيونات، فقد تضيع منا متعة البسمة، نتيجة تعليقات الانتظار لساعات، بأقوال قد ترفع الضغط، أو تصيب الإنسان بتوتر، أو تخرجه عن شعوره، وهو حقيقة ما جرى لمن شاهد الحديث ولم يأخذ بنصيحة إغلاق شاشات التلفزيون.
من واجب أي رئيس دولة أن يخرج على الشعب ويتحدث إليه، وواجب الحديث أن يكون سياسيا، وأن يزيل أي غموض أو إحباط، وأن يدفع إلى اليقين والأمل، وتميز مرسي بأنه عندما يتحدث، يزيد من علامات الاستفهام وكأنه يتحدث عن كوكب آخر ووطن غير مصر وحقائق غير التي يمسك بها الناس كجمر النار تحرق الجلد واللحم والعظام، حتى أن رائحة الشياط في مصر تزكم الأنوف، وتخرق الأبصار، ولا يمكن تسكين حديثه في كل ما مضى أنه حديث سياسي على الإطلاق، فتناول غير قضايا الشعب، وادعاء غير الحقائق، يدفع إلى فقدان الثقة في المتحدث، وإن ظل في غيه وتوهمه أنه يكسب، فالحقيقة أنه يفتح الباب على مصراعيه للرفض وتصاعد التصدي.
إنه صورة حقيقية للانتحار السياسي، فقد يكون مقبولا من غير من يتصدى لمهمة رئيس الدولة أن يدعي ما يشاء، ولكن رئيس الدولة لا يملك ترف الادعاء.
في كافة المقالات التي كتبتها طوال زمن الثورة لم أشك لحظة أن الإخوان وحزب الحرية والعدالة داخل خندق القوى المضادة للثورة، وأن المسار منذ لجنة البشري حتى حديث الأمس هو خروج عن حاجات الثورة وهو حالة من القرصنة تمارس بكل الفجاجة والوضوح كأنهم يقولون: "هاتوا آخر ما عندكم"، ولكن مرسي يرى أنه يمثل الثورة!، وأن كافة التحركات ضده هي ثورة مضادة، وأن التعبير عن الرأي جائز، والعصيان المدني حركة ضد الثورة، ولم يسأل نفسه لماذا يلجأ الشعب إلى العصيان المدني، ولم يحاول أن يفسر حصار المحكمة الدستورية من أتباعه، بل تحجج بأن غيرهم حاصروا النائب العام ونسي أن أتباعه أيضا حاصروا النائب العام الذي سبقه.
نحن لا نناقش حديث مرسي ولكننا سنحاول قراءة إلى أين تتجه مصر بعد حديثه ودعوته إلى الانتخابات النيابة طبقا لقانون انتخابات أرسله إليه مجلس الشورى وأصدره هو، رغم عدم مرور القانون بخطوة حيوية ودستورية وهي عرضه على المحكمة الدستورية، خاصة وأن المحكمة أعادت القانون بملاحظات لها، وكان واجبا أن تراجع المحكمة الصيغة النهائية للقانون ومدى توافق مواده مع ملاحظاتها، ولكن مجلس الشورى الإخواني نصب من نفسه بديلا عن المحكمة الدستورية، وبارك مرسي هذا التجاوز، رغم أن نائبا لرئيس المحكمة صرح بأن هذا الإجراء يفتح باب الطعن بعدم الدستورية بعد إتمام الانتخابات.
وكأن مصر يحكمها طاقم من الهواة ولا رادع لتماديهم في فعل ما يشاءون بلا حساب.
الثورة ساقت العديد من الكيانات بعدها إلى الانتحار السياسي.
انتحار محمد بوعزيزي في سيدي بوزيد بتونس، كان احتجاجا فجر ثورة شعب. وانتحار مماثل تكرر في مصر مرات متعددة لم يكن هو الدافع للثورة، ولكن جريمة مقتل خالد سعيد في الإسكندرية قبل انتحار بوعزيزي كانت سببا في تحرك الشباب المصري.
وشهد العالم الكهنة البوذيين، حين كانوا يحرقون أنفسهم في الساحات العامة احتجاجا على الحرب الأمريكية ضد فيتنام، وكان مشهدا أثار الرأي العام العالمي حينها.
الرأي العام يمكنه أن يتألم، أو تبلغه المأساة عبر صور الانتحار أو الاستغاثة، ولكن الواقع لا يتغير بعيدا عن موازين القوة وليس تأثرا بحق أو بحالة إنسانية مؤلمة.
تجاوز الثورة المصرية للكيانات السياسية السابقة عليها، فتح الباب أمام الانتحار السياسي لتلك الكيانات عندما لم تدرك طبيعة المسار الذي تمضي فيه، واستطابت ذات المنهج السابق على الثورة دون استيعاب لطبيعة ما جرى. وانتحرت جماعة الإخوان وكافة تنظيمات ما اتفق على تسميته بالإسلام السياسي عندما انقضت على الثورة والدولة لإعدام الهوية الوطنية، وادعاء أنهم يعيدون الفتح الإسلامي لمصر، فتفاقم الانتحار السياسي بما أدركه الشعب من كذبهم، وسعيهم إلى تقسيم الشعب طائفيا ومذهبيا، بل إنهم فيما ذهبوا إليه وضعوا القضية الفلسطينية على مذبحة المصالح الضيقة لهذه الجماعات، ونقلوا إلى مصر صورة الإرهاب تحت عباءة الدين.
كشفت الفترة الانتقالية المتاجرين بالدين والمتاجرين بالثورة، ومازال الشعب يعيش حالة المقاومة في مواجهتهم جميعا، وينتقل زمام المبادرة إلى يديه ببطء.
فهل استوعبت الأطراف التي تملأ الفضاء طنينا بلا طحن حقيقة اغترابهم عن الشعب؟
تصريحات تخرج من السلطة بالدعوة إلى حوار حول الانتخابات، ويدين الإخوان العنف، متناسين أنهم أول من قبل به منذ الأيام الأولى للثورة في مواجهة مظاهرات الشباب الداعية إلى تحقيق أجندة وضعوها هم، وأن اتهامات عديدة طالت عناصرهم وإسهامهم في العنف وآخرها عمليات القتل والاختطاف والهجوم على معتصمي الاتحادية في 5 ديسمبر 2012 والذي راح ضحيته عشرة من المعتصمين، ويخرج سعد عمارة وكيل لجنة الدفاع والأمن بمجلس الشورى مهددا بأنهم يمكنهم الحشد في مواجهة الفوضى.
وتتلقى التيارات التي استطابت الخيارات ذاتها التي عرضتها أجندة الإخوان، الدعوة لانتخابات المجلس النيابي في أبريل القادم بالاعتراض وبدعوة مضادة للمقاطعة!!
الفارق جوهري بين العصيان المدني الذي يدعو له الشعب وتناميه التدريجي والمواجهات العنيفة التي يتعرض لها، وبين دعوة المنتحرين سياسيا بالمقاطعة.
لن يفيد الشعب ان قبلت الأحزاب والشخصيات السياسية دخول الانتخابات أو مقاطعتها، فأيا كان خيارهم، فلن يجدوا من الشعب آذانا تسمع أو رغبة للقبول بما يدعون إليه. ولم يعد أمامهم سوى أن يقبلوا بنداء الشعب بالعصيان المدني في مواجهة سلطة اقتنصت الثورة بعيدا عن الإرادة الشعبية، وتنتج كل يوم رأس أفعى جديدة تعيد النظام السابق، حتى أن حكما من محكمة القضاء الإداري العليا صدر بعدم صحة حل الحزب الوطني المنحل!!، أي أن ائتلاف المصالح الرأسمالية بين رأسمالي الإخوان ورأسمالي نظام مبارك، الذي أدار فكرة المصالحة مع رموز النظام السابق، يستكمل تكوين الحياة السياسية باستدعاء الحزب الوطني المنحل.
ويبقى أن تطهير ثوب الثورة من الدنس الذي ألم به، صار مسؤولية الشعب، وبلا قيادة وبدون مشروع واضح للنظام الذي يريده.
هذه الحقيقة تناظر حقيقة أدركها الشعب المصري بعد هزيمة يونيو 67 العسكرية، يومها أدرك الشعب وبكل طوائفه أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، ونجح أن يضع كل أبنائه تحت السلاح دفاعا عن الوطن، وهو اليوم مطالب بأن يضع كل أبنائه في طريق العصيان المدني بكل ما يمثله من مهام متعددة ومتواصلة على مدار الساعة، ولعل تحديد توقيت الانتخابات وضع أمام الشعب المدى الزمني لاكتمال العصيان المدني، الذي يمكنه وحده وبدون العنف أن يمنع حدوث الانتخابات التي تكمل حلقة الانقضاض على الثورة.
وإذا كانت الحركة الميدانية مسؤولية الشباب بالدرجة الأولى، فإن العناصر السياسية، أحزابا وأفرادا، يجب أن تنضوي ضمن حركة العصيان المدني إن شاءت أن تدخل في الحساب.
إن مهمة أخرى مضافة إلى مهمة الحركة الميدانية، وتضيف إلى العصيان المدني مضمونه وأهدافه وصورة النظام الذي تريده الثورة، وهي مهمة تفرض نفسها على المفكرين والمثقفين في مصر، بلا دعوة، ولكن بمبادرة مماثلة للمبادرات التي يمارسها الشعب وبلا دعوة من أحد، لعلهم بهذا يتطهرون مما ألم بهم طوال الفترة الانتقالية واكتفائهم بالحوارات التلفزيونية دون إنتاج لرؤية واضحة تمد حركة الشعب بتصور أولي لمجتمع يضمن تحقيق أهداف الثورة وحاجات الشعب.
المشاركة في الانتخابات النيابية القادمة تضفي شرعية على نظام الانقلاب على الثورة. ومقاطعة الانتخابات لن تحول دون إتمامها على أي نحو، وكما أنتجت مقاطعة انتخابات مجلس الشورى مجلسا غير دستوري، وحماه مرسي بإعلانه الدستوري، وكما أنتج مجلس الشعب السابق، والذي قضت المحكمة الدستورية بحله، الجمعية التأسيسية للدستور، وحماها أيضاً مرسي، وصار رئيسها مرشحا لأن يصبح مرشد الإخوان القادم، وكما أنتجت انتخابات الرئاسة سلطة تفعل ما تشاء وفق ما يحلو لها من مواد الدستور أو القانون، فإن الدرس مازال ماثلا، أن كل من قبل بدخول انتخابات الرئاسة من دون دستور يحدد صلاحيات الرئيس، كان يبحث عن ذاته ولا علاقة له بالثورة، بل كان يرقص على دفوف الانقلاب على الثورة.
العصيان المدني والرؤية الوطنية لنظام الثورة، هما مهام خمسين يوما قادمة، فهل يعقل المصريون، سواء في الحركة الميدانية، أو مثقفو مصر وخبراؤها حقيقة التحدي الذي يواجهه الوطن، أم أنهم يستعذبون التعامل البوليسي معهم، ويمارسون الانتحار السياسي.
سيذهبون ان انتحروا غير مأسوف عليهم جميعهم، وسيبقى الشعب والثورة، ومهما كان عدد الشهداء أو المصابين، فإنه طريق لا بديل عنه، لأن الشعوب خلقت لتحيا، ولتدفع ثمن الحياة مهما كان غاليا.
المصدر : بوابة الشرق