كانت فكرة "الديوان" – وهي ما ذكره المؤرخ المنبهر بالغرب عبد الرحمن الرافعي بالحكومة الدستورية – التي وضعها نابليون منذ اليوم الأول لاحتلاله القاهرة (24 يوليو 1798م) فكرة خبيثة بحق؛ ذلك أن الغزاة الفرنسيين بعدما طردوا المماليك ومزقوهم كل ممزّق – وهم القوة العسكرية المنظمة في مصر آنئذٍ – استعانوا بكبار شيوخ مصر وقتها وهم نخبة العصر؛ ليكوّنوا مجلسًا مشتركًا معهم لحكم البلاد؛ وقد كانت هذه الاستعانة بالرغبة والرهبة.
كان منطق الفرنسيين في ذلك متمركزًا حول استخدام اللين والرفق عسى أن ينخدع الناس لهم – ومن الاستخفاف والإهانة أن بعض هؤلاء الأشياخ كان إذا أراد أن يدخل دار الخلاء ألزموه بقضاء حاجته من شبّاك الديوان (الحكومة الدستورية!!) على مرأى ومسمع من الحضور – لكن الديوان – الذي انبهرت به المدرسة السياسية والأدبية العلمانية في مصر منذ نشأتها – كان فكرة فاشلة تمامًا كالحكومات العميلة التي صنعتها فرنسا على عينها في أفريقيا بالتحديد.
قامت الثورة في القاهرة – رغم رفض شيوخ الديوان ذلك تحت القهر أو التملّق للغازي – لكن علماءً غيرهم وصغار طلبة العلم من الأزاهرة لم يغررهم تقلب شيوخهم في أضحوكة الديوان فحرّضوا الناس على الثورة المصرية الأولى التي استمرّت شهرًا كاملاً استشهد فيها آلاف منهم، لكنها أدخلت الرعب والخوف في قلب نابليون الذي هرب ومن بعده كليبر الذي قتله المجاهد الشامي سليمان الحلبي ومن بعده مينو الذي أعلن إسلامه – نفاقًا وخوفًا – لتقوم الثورة المصرية الثانية التي كنست الفرنسيين من مصر كنسًا.
***
لماذا تقبل كل من الجزائر والمغرب باستخدام فرنسا لمجاليهما الجوي لتقتل مسلمين أبرياء أرادوا أن يكون لهم دولة خارج نطاق الهيمنة العالمية؛ هيمنة القوى الاستعمارية الغازية التي كوّنت مع مرور الزمن حكومات عميلة!
إن مكمن العجب يتمثّّل في أن الجزائر على سبيل المثال أقدم البلدان العربية احتلالاً في العصر الحديث وأطولها – احتلها الفرنسيون في العام 1830م وتركوها سنة 1962 – تسمح لفرنسا – غازيها القديم!- باستخدام مجالها الجوي؛ فالمنطق وطبيعة التاريخ القاسي الممتد على مدار 132 عامًا من الفرنسيين والعدد الرهيب للشهداء الذين قُتلوا على أيديهم والذي وصل لأكثر من مليون شهيد يقول أن تكون الجزائر منذ الاستقلال أكثر البلدان حذرًا من فرنسا، لكن يبدو أن فرنسا خرجت وتركت مشروعها أمانة في عنق نخبة حاكمة سرعان ما تمّ تغييرها بالجنرالات بعدما لاحت سيطرة الإسلاميين على الحكم في أوائل التسعينيات ليرتكب الجنرالات مجازر مروّعة – قتلت مئات الآلاف – وكتاب الضابط المنشق الحبيب سويدية "الحرب القذرة" وغيره يبين كم المآسي التي ارتُكبت بواسطة نظام الجنرالات في الجزائر، فأن تسمح الجزائر لفرنسا – عدوة الأمس – بفتح مجالها الجوي لقتل الأبرياء والأطفال وأناس لا ذنب لهم سوى أنهم يريدون دولة على أعينهم ووفق منطقهم وهويتهم ودينهم، فهو قمة الفجور وأبشعه!
هل الحدود التي صنعها المحتلّ منذ عقود قانونًا مقدسًا مبرمًا، أناس ذاقوا الظلم والفقر والجهل من حكومة منبطحة تابعة فعليا لفرنسا، وزاد الطين بلة انقلاب عسكري أزّم الوضع فأمست البلد سوءًا على سوء، فأرادوا أن ينفصلوا بإقليم أزواد؛ صحيح أن هناك خلافًا قد حدث بين العلمانيين وطلاب الشريعة على طبيعة الحكم وسياسته لكن ليس معنى ذلك أن تأتي فرنسا بجلالة قدرها لتدكّ الجميع بالحديد والنار بما فيهم الفقراء والأطفال ومن لا ناقة لهم ولا جمل في هذه المأساة!
والسؤال الساذج ما الذي يضيركم من حكم هؤلاء لبلدهم بالشريعة الإسلامية، مثلهم مثل الانفصاليين الذين وقفتم معهم في جنوب السودان؟
بل لماذا لم تستجيبوا لطلب رئيس أفريقيا الوسطى لما استغاث بقواتكم ضد متمردي بلاده فرأيتم أن ليس من شأنكم التدخل في شئون الآخرين، وهي حكومة منتخبة من الشعب، وكان ذلك قبل أيام فقط من غارتكم على شمال مالي؟!
برغم اختلافنا مع فكر القاعدة على مستويات الحكم وفهم الشريعة والنوازل وغيرها فإن قضية الشريعة والحكم بها خط أحمر للغرب .. دولة على هامش التاريخ والحضارة تهب للذب عنها دولة عظمى تؤيدها قوى مثلها بالسياسة واللوجستيات وغيره، في حين أن دولة في قلب الشرق الأوسط وهي سوريا يقتّل الناس فيها بالمئات يوميًا منذ عامين ومع ذلك فالتدخل العسكري لنصرتهم لا يزال مبكرًا؛ مبكرًا لأنه ليس من مصلحة الغرب أن يكون بديلاً لبشار إسلاميون لا يقبلون بغير الشريعة حكما بينهم!
بالقطع ليس السبب هو الشريعة وحدها في أزمة مالي وسوريا؛ فالمصالح السياسة والاقتصادية لها نصيب عظيم؛ فدولة مالي على حدود النيجر أكبر الدول المصدّرة لليورانيوم والمعادن النفيسة لفرنسا والغرب، وإن خروج واستقلال قطعة ما في الصحراء الكبرى الأفريقية قد يكون بادرة ربيع أفريقي من نوع آخر يدمر كل المصالح الفرنسية والغربية لدول الصحراء وغرب أفريقيا وهي دول تابعة حتى النخاع لفرنسا، لكن الحديث عن جوهرية ومركزية الحكم بالشريعة الإسلامية بالنسبة لفرنسا وللغرب هو الأصل الذي يجب أن يجلي نفاق المنافقين في هذا العالم.
وختامًا يبدو أنه حينما قال المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي في الستينيات – وفي ظل الصراع الشديد بين الرأسمالية والشيوعية – بأن وقف الأيديولوجية الرأسمالية لن يكون إلا على يد المسلمين؛ فهم الوحيدون في العالم الذين يملكون فكرًا ثابتًا يرتكز على غيبيات لم تشوهها العلمانية كما شوهتها في شعوب الأرض وجعلتها قابلة للاستسلام (السيولة في فكر عبد الوهاب المسيري) كان صادقًا لكنه لو عاش بيننا اليوم لاستطاع بكل ثقة أن يُحدد مَن مِن المسلمين يملك المقدرة على فعل ذلك.