تحوّلت الطريقة التي تتعاطى بها الحكومة المصرية مع جائحة «كوفيد 19» إلى دراسة حالة في القمع والبروباجندا والتضليل. لقد سارع النظام إلى التعامل مع الجائحة وكأنها خطر أمني محدِق به، بدلاً من أن يتعاطى معها على أنها أزمة في قطاع الصحة العامة. هذه السياسة متجذّرة في سيطرة الأجهزة الأمنية على المؤسسات المدنية، وفي المقاربة القائمة على عدم التسامح مع المعارضين.
جاء ذلك في تقرير نشره موقع «كارينجي»، كتبه المحلل السياسي وكاتب الرأي «ماجد مندور».
متابعا: «من الوسائل الأولى التي لجأ إليها النظام للتعاطي مع أزمة فيروس كورونا إدخال تعديلات على قانون الطوارئ والشروع في تنفيذها اعتباراً من 22 أبريل الماضي. تجيز التعديلات للرئيس تكليف الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة بمهام مباشرة، ويمنح القوات المسلحة سلطة اعتقال الأشخاص، ويوسّع السلطة الممنوحة للنائب العام العسكري بما يتيح له التحقيق مع الأشخاص الذين يوقفهم الجيش. ولا تقتصر سلطة التوقيف على الجرائم أو الهجمات المباشرة أو غير المباشرة ضد المنشآت العسكرية أو العناصر العسكريين. في الجوهر، يوسّع هذا التعديل السلطة الواسعة الممنوحة أصلاً للمنظومة القضائية العسكرية لمقاضاة المدنيين. ويمنح أيضاً السيسي سيطرة شخصية مباشرة على القوى الأمنية والجيش، عبر تخطّي الهيكلية القيادية القائمة.
لقد شنّ المسؤولون في النظام أيضاً حملة ترويجية منظّمة تقوم على مزاعم كاذبة عن الخطوات الحكومية وصلابة منظومة الرعاية الصحية. في بداية تفشّي الجائحة، قامت وزيرة الصحة الدكتورة هالة زايد بزيارة إلى الصين في الأول من مارس للتعبير عن “التضامن” في محاولة لإظهار شجاعة الحكومة ومكانتها الدولية، وفي هذا الإطار قدّمت مصر عشرة أطنان من المعونات الطبية للصين وقامت بمبادرات دعم مماثلة تجاه إيطاليا والولايات المتحدة. وقد أثار ذلك غضباً عارماً في البلاد لأنها تعاني أصلاً من نقص في تلك المواد.
مع بدء انتشار الجائحة، صدرت عن المسؤولين الحكوميين سلسلة تصريحات مخادعة الهدف منها تعزيز ثقة الرأي العام بإجراءات النظام. على سبيل المثال، في 2 مايو صرّح محافِظ الشرقية أن الجائحة تحت السيطرة، في حين تباهت وزيرة الصحة الدكتورة زايد بصلابة منظومة الرعاية الصحية المصرية وبخبرة الأطباء المصريين في التعامل مع الأوبئة المماثلة.
في 21 مايو، عرض وزير التعليم العالي نموذجاً إحصائياً توقّع فيه أن تبدأ الجائحة بالانحسار بحلول 28 مايو بعد تسجيل 40000 إصابة. ولكن هذا النموذج يتجاهل العدد المحدود للاختبارات التي أجرتها الدولة، والتي بلغت 105000 اختبار فقط مقارنةً ببلدان ذات مساحة مشابهة مثل ألمانيا التي أجرت نحو 4 ملايين اختبار. ولذلك فإن النقص في الاختبارات يطرح شكوكاً حول جميع الأرقام الرسمية ويندرج في إطار سياسة التضليل التي ينتهجها النظام.
على الرغم من أوجه القصور هذه، أثنى الدكتور علاء عيد، رئيس قطاع الطب الوقائي، في 25 مايو، على المقاربة الحكومية، مشيراً إلى أن الجائحة “مستقرة”. فضلاً عن ذلك، ومع الزيادة الكبيرة في أعداد الإصابات، صدرت تصريحات عبثية عن وزيرة الصحة، منها تأكيدها في الأول من يونيو أن القوة الكبيرة التي يتمتع بها نظام المناعة لدى المصريين منحت الحكومة “متنفّساً” للتعاطي مع الجائحة. سوف تكون للتصريحات المضللة الصادرة عن المسؤولين الحكوميين، مقرونةً بازدياد أعداد الإصابات، تداعيات وخيمة على الثقة العامة في ما يتعلق بقدرة الدولة على مواجهة الجائحة والأزمات المماثلة.
وقد تملّصت الحكومة من المسؤولية في تفشّي الجائحة من خلال إلقاء اللوم على المواطنين. على سبيل المثال، في 3 مايو، صرّح الدكتور حسام حسني، رئيس اللجنة العلمية لمكافحة كورونا، أن الجائحة بلغت ذروتها وعزا الارتفاع في أعداد الإصابات إلى السلوك الاجتماعي غير المسؤول. وعزّزت وزيرة الصحة هذه السردية في 9 مايو، عندما صرّحت أن الفيروس انتشر بسبب عدم مراعاة قواعد التباعد الاجتماعي، فيما روّجت للنظام الصحي المصري معتبرةً أنه من الأفضل في العالم.
ولكن الزيادة في أعداد الإصابات مردّها بصورة أساسية إلى محدودية المبادرات الحكومية في قطاع الصحة العامة وقصر أمدها واستنادها إلى سياسة “التعايش” مع الفيروس. لقد اشتملت المقاربة الحكومية على تطبيق إغلاق جزئي في أبريل، وفي 19 مايو، فرضت الحكومة غرامة مالية قدرها 4000 جنيه مصري على الأشخاص الذين لا يضعون كمامة. بيد أن هذه السياسة نُفِّذت لمدة أسبوعَين فقط، وفي 27 يونيو رُفِع الجزء الأكبر من هذه القيود. ومنذ ذلك الوقت، سمحت الحكومة للمطاعم والمقاهي بأن تفتح أبوابها من جديد مع قدرة استيعابية بنسبة 25 في المئة، ومدّدت ساعات عمل المتاجر حتى التاسعة مساءً، وألغت حظر التجوال ليلاً.
شنّ النظام أيضاً حملة منهجية لقمع منتقدي المقاربة الحكومية في التعاطي مع الجائحة، وبصورة خاصة الأصوات الانتقادية التي صدرت عن العاملين في القطاع الطبي. فقد أوقِف ثلاثة أطباء ووُجِّهت إليهم اتهامات بنشر أخبار كاذبة والانتماء إلى تنظيم إرهابي وإساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي. وجاء توقيفهم على خلفية توجيههم انتقادات للحكومة عبر موقع “فيسبوك” بسبب طريقة تعاطيها مع الجائحة، حيث تطرّقوا في شكل خاص إلى النقص في معدات الحماية الشخصية المخصصة للعاملين في القطاع الطبي.
بحلول 23 يونيو، تفاقمت مؤشرات انهيار المنظومة الطبية، مع وصول عدد الوفيات في صفوف الطواقم الطبية إلى 92 طبيباً. فانطلقت الحكومة في موجة جديدة من القمع عقب وفاة الدكتور وليد عبد الحليم في مستشفى المنيرة بسبب النقص في معدات الحماية الشخصية. وبعد وفاة الدكتور عبد الحليم، استقال عدد كبير من المهنيين العاملين في القطاع الطبي احتجاجاً على المقاربة الحكومية في التعاطي مع الجائحة، واتهموا الدولة بالتقصير في اتخاذ الإجراءات المناسبة لحماية الأطباء. فردّت الحكومة بشنّ حملة اتهمت من خلالها العاملين في القطاع الطبي بالخيانة، مدّعيةً أن جماعة الإخوان المسلمين هي التي حضّت الأطباء –الذين يزعم النظام أنهم أعضاء في الجماعة– على الاستقالة. وزعمت السلطات أيضاً أن هناك تدخلاً خارجياً من جانب تركيا بهدف التحريض على معارضة النظام. يقول جمال عيد، المدير التنفيذي للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، إن العدد الإجمالي للموقوفين ارتفع، بعد موجة الاعتقالات الأخيرة المرتبطة بوباء كورونا، إلى 500 شخص بينهم 11 صحافياً.
تكشف المقاربة الحكومية في التعاطي مع فيروس كورونا عن تحوّل بنيوي في الدولة في عهد السيسي، يتمثّل تحديداً بحدوث تغيير في جوهر المؤسسات المدنية من خلال القضاء على استقلاليتها، ودمجها في الدولة، وجعلها مكوّناً أساسياً من مكوّنات سياسة القمع الحكومية. وبسبب هذه التحولات، باتت المؤسسات المدنية عاجزة عن التعاطي بفعالية مع أي شكل من أشكال الأزمات أو مسائل السياسة العامة، لأن الدولة تعطي الأولوية لقمع المعارضين بدلاً من جعل مسائل السياسة العامة في صدارة أولوياتها. في المدى الطويل، لن يؤدّي ذلك سوى إلى تقويض كفاءة المؤسسات المدنية وفعاليتها، والسير بوتيرة متسارعة نحو فقدان ثقة الرأي العام بالدولة والنظام. ومن المحتوم أن تولّد هذه المعطيات أزمةً تصاعدية للنظام الذي يرى في القمع حلاً شاملاً لجميع التحديات. وسوف تستمر قدرة الدولة على التعاطي مع الأزمات في التناقص».
(كارينجي).