صباح الثلاثاء الماضي (24/7) كان العنوان الذي تصدر الصفحة الأولى لجريدة الصباح كالتالي: سلفيون: تطبيق الحدود بات قريبا. وتحت العنوان ذكرت الجريدة ما يلي: أكد عدد من قيادات التيار السلفي أن تطبيق حدود الشريعة الإسلامية بات قريبا، لأن الشعب يؤيد ذلك بقوة.. وقال الدكتور يونس مخيون عضو مجلس إدارة الدعوة السلفية، ومساعد مقرر لجنة المقومات في الهيئة التأسيسية للدستور إن السلفيين يسعون لتطبيق «الحدود»، لأنهم على قناعة تامة بأن الشعب المصري سيكون مهيئا لتطبيقها في السنوات المقبلة.
حين يدقق المرء في الكلام المنشور يلاحظ أنه منسوب إلى واحد من السلفيين، وليس إلى عدد من القيادات، وأن هذا الواحد الذي ذكر اسمه لم يقل إن تطبيق الحدود بات قريبا، كما أشار العنوان وكما جاء في مقدمة الخبر، لأن ما نقل على لسانه أن السلفيين يسعون لتطبيق الحدود لأنهم على قناعة تامة بأن الشعب المصري سيكون مهيئا لتطبيقها في السنوات المقبلة. وهناك فرق بين أن يكون التطبيق قريبا، وبين أن يحدث ذلك بعد عدة سنوات. كما أن هناك فرقا بين أن يقول الكلام واحد من السلفيين، وبين أن ينسب إلى قيادات التيار السلفي.
من الناحية المهنية يعد نشر الكلام بهذه الطريقة نموذجا للتلاعب في الصياغة الذي يستهدف استفزاز القارئ واستنفاره. لأن هناك كثيرين يقرأون العناوين فقط ولا يدققون في التفاصيل، ومن ثم فإن هذه الفئة من القراء سوف تتلقى الرسالة الخطأ، وتصدق أن السلفيين أعلنوا أن تطبيق الحدود الشرعية سيتم في وقت قريب. الأمر الذي يعني أننا مقبلون «قريبا» على مرحلة تقطع فيها أيدي السارقين ويرجم الزناة ويجلد شاربو الخمر.. إلخ.
هل هذا خطأ مهني فقط أم أنه تفخيخ مقصود ومنزوع البراءة؟ ــ أرجح الاحتمال الثاني بشدة، لأن ترويع الناس من كلمة الشريعة وتلغيم الأخبار المتعلقة بالتيار الإسلامي عموما بات أحد محاور الخطاب الإعلامي في مصر. إذ لم يعد سرا أن خطاب «الفزاعة» الذي ظل مستمرا طوال نصف القرن المنصرم لم يتغير فيه شيء بعد الثورة. بل إن الحملة اشتدت بعدما حصل الإخوان والسلفيون على الأغلبية البرلمانية. حيث مازلنا نرى جيش المتربصين الذين لا يكادون يلمحون تصريحا لفرد أو تصرفا شاذا أو فرقعة من أي نوع إلا وأبرزوها وعمموها على التيار في مجمله وحولوها إلى قضية رأي عام. فافتعال فرقعة عن تطبيق الحدود في وقت قريب يصبح مقدمة لفتح الملف وتخويف الناس منه. وهو ما حدث مع فرقعات أخرى بعضها كذب صراح مثل مسألة هدم الهرم الأكبر باعتباره رمزا وثنيا، وبعضها سمج مثل شائعة مضاجعة الموتى (هل تذكر حكاية إرضاع الكبير؟) وبعضها لا محل له مثل مسألة الإماء وملك اليمين، وبعضها يداعب خيالات البعض مثل إقامة الخلافة. تنضم إلى قائمة الفرقعات حماقات بعض الأفراد التي تتم باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أو مثل التي يمارسها البعض للفت الأنظار واكتساب الشهرة بلجوئهم إلى ملاحقة الفنانين أو تغطية التماثيل أو العبث ببعض اللوحات الفنية. إلى آخر الممارسات الفردية السخيفة التي يتصيدها المتربصون ويوظفونها لأجل التخويف وتصفية الحسابات السياسية وتسجيل النقاط في الصراع الدائر بين الاتجاهين الإسلامي والعلماني.
عقلاء القوم وأسوياؤهم يفرقون بين الأخطاء الفردية والظواهر الاجتماعية. والأولى تعطى حجمها وتنسب إلى فاعليها وتحسب عليهم. من ثَمَّ لا تصبح مصدرا للقلق أو الفزع. أما تلك الأخطاء إذا اتسع نطاقها وتحولت إلى ظواهر اجتماعية فهذه تستدعي استنفارا واحتشادا وتصديا من نوع مختلف من جانب السلطة والمجتمع. وللأمريكان تقدير يقول إن المجتمع يكون طبيعيا ومعافى طالما ظل حمقاه بحدود 5٪، أما إذا زاد عددهم على تلك النسبة فالأمر يتطلب نظرا مغايرا يتحرى الجذور والدوافع.
إن أحدا لم يتوقف عند بعض المصريين الذين ذهبوا إلى السفارة الأمريكية طالبين بالاستجارة بهم وإغاثتهم. ولم يلتفت إلى صاحبنا الذي تحدث في الإعلام الكندي مطالبا الحماية من الدول الغربية. ولم يكترث أحد بمن دعت المجلس العسكري إلى عدم تسليم السلطة إلى المدنيين واقترحت أن يكون للمتعلم ضعف صوت الأمي. ولم يتم وصم الليبراليين جميعا لأن منهم من دعا إلى تدخل قادة الجيوش لمنع الرئيس من ممارسة سلطاته. ولا أدين الجميع حينما انحاز البعض إلى العسكر لإقامة المجتمع المدني المنشود. ذلك كله تم تمريره على خطورته لأن الصائدين والمتربصين لهم حساباتهم مع الطرف الآخر، جعلتهم يعطون تلك الزلّات حجمها ويتجاهلونها. باعتبارها ممارسات فردية واستثنائية.
ثورة الاتصال لعبت دورها في إنجاح حملات التخويف والترويع من خلال التمكين للفرقعات أن تحدث قدرا أكبر من التشويش والبلبلة. وفي مناقشة جرت حول هذه النقطة قلت إن وسائل الاتصال ومنابره سلاح بحدين، فإذا استخدمها البعض في الترويع، فإن الحل لا يكون بإسكات تلك الأصوات، وهو أمر متعذر، وإنما يكون بتقديم أداء إيجابي أفضل يطمئن الناس ويستعيد ثقتهم، ويبدد آثار التخويف والترويع.