الوجود السياسي للمملكة العربية السعودية لم يظهر إلا في العقود الخمسة الأخيرة ، والذي بدأ في الحقيقة مع اكتشاف خزينتها الأثيرة من البترول. هذا الكشف نفض الغبار أيضاً عن شخوص عظيمة ملكت القرار حينها فكانت عند مستوى المروءة والرجولة والشجاعة والقرار.
منذ ذلك التاريخ وحتى قريب ظل للنظام السياسي في المملكة رصانته، واحتفظت دبلوماسيتها بقدر كبير من الاحتشام والوقار.
نعم .. كان من الحق الواضح أن يختلف كثيرون مع مواقف المملكة، بيد أن كثير أيضاً كان يقبل الأداء المحافظ من المملكة ورموزها وقادتها.
المتابع للشأن السعودي اليوم يلمس تحولاً عنيفاً في سلوك نظام الحكم السعودي، وربما قادم الأيام يشي بتحولات أشد دراماتيكية وعنفاً.
السياسة السعودية كانت دائما تعيش في جلباب المحافظة وتتستر بأثواب قشيبة من الاحتشام، وتسعى إلى ما تريد بعيداً عن التحالفات الحدية أو الصراعات الظاهرة. ربما يرجع ذلك في رأي البعض إلى الشيخوخة التي غالباً ما كان يتسم بها قادتها وبقائهم في الحكم لفترات طويلة.
تلك الشيخوخة والهرم صبغت سلوك المملكة السياسي وألزمته بالهدوء الطويل والروية المفرطة، واكتفى ساستها لتاريخ طويل بمسار شراء الولاءات أو ما سمي دبلوماسية دفتر الشيكات.
بدايات التحول في سياسات المملكة كانت في خواتيم حكم الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز؛ إذ اعتمد الرجل سياسة القفز إلى الأمام وألقى بثقل المملكة في الاشتباك مع ملفات الربيع العربي.
دافع الملك الراحل عن غريمة حسني مبارك باستماتة مفضوحة، ثم شارك نظام حكمه بكل قوة في دعم الثورة المضادة ومخاصمة نظام الربيع العربي الوليد حتى تم إسقاطه في مصر، ثم كانت المملكة عمود الخيمة في قيامة الإنقلاب ودعمه من ولادته حتى أوقفه على قدميه.
في اليمن كانت المبادرة الخليجية هي حصان طروادة الذي التف به الخليجيون وعمدتهم السعودية حول مطالب الشعب اليمني وثورته، وأعادوا علي عبد الله صالح للمشهد، ومكروا بأهل اليمن فأنهكوا حكمائهم ونحروا شبابهم وبدلوا حال اليمن السعيد فقراً ومرضاً وقضوا على وحدته ومزقوا أوصاله.
رحيل الملك عبد الله وخلافة شقيقة الذي ابتدر حكمه بتغييرات هيكلية تفاءل معها الجميع بعودة السلوك السعودي إلى بعض الرشد ، خاصة بعدما نزع كل مسامير الخيانة التي استطاع محمد بن زايد زرعها في أروقة القصر وأجنحة الإعلام سعودي؛ فأحالت ثباتهم رَكَضَاً و بدلت أخلاقيات حاولوا الدثر بها عُرياً.
الأيام لم تمهلنا؛ إذ قدم العاهل الجديد ولده محمد بن سلمان ليسقط الأخير في براثن عيال زايد مرة أخرى، فيصبح ألعوبة في سيرك آل زايد، وتتحول معه السياسة السعودية من دور المسنين ومصحات الكبار إلى ما يشبه جبلاية القرود وبهلونات السيرك.
لم يتوقف الأمر على تغييرات تعنى بخفة الحركة أو سرعة التنقل، بل أصبحت المملكة على يد المراهق الشاب تتخبط يمينا ويساراً في مغامرات لم تراعي بدانتها وترهل جسدها.
لم يلبث ابن سلمان أن ألقي بالجيش السعودي في متاهة اليمن وعقد تحالفات عاجلة مع خونة وثعالب، فأودى بهيبة جيشه وجنوده في هاوية تسمى حرب اليمن. بينما لم يشك الأمير المتعجل في أن اليمن نزهة سيقضيها ويعود عاجلاً بانتصار زاهي تولد معه بطولة وزعامة له يتربع بها على عرش المشرق الميمون.
ساخت أقدام المغامر الصغير في اليمن وغرزت سياسة المملكة معه في ألاعيب الأفاعي فوجد نفسه في مخاضة قذرة من أوحال التواصل مع اسرائيل، وسار منكفئاً في صحبة عراب الخيانة والعمالة محمد بن زايد ووجد نفسه في فراش العهر مع كل من السيسي ودحلان ومن على شاكلتهم.
هذا الفشل والتردي والسقوط في كل الملفات التي حملها الأمير الشاب لم يشفع للوالده العاهل السعودي أن ينقذ المملكة منه بأن يمسك اللجام ويوقف المغامر الصغير عن مسلكه المتهور.
الكبير لم يفعل، بل ارتقى بنجله الأهوج درجتين ليقف به على عتبة سُلم الملك السعودي ويجعله قاب قوسين أو أدني من أن يتوج صاحب المُلْك المطلق في المملكة اليوم أو غدا!!..
هذا الصعود لملك المستقبل الشاب صَاحَبَه في نفس الوقت مزيد من الفشل في الملف الأكثر حساسية وحقل الألغام الأشد خطورة؛ ألا وهو الإقتصاد.
تهور محمد بن سلمان وغباؤه سَوَّل له أنه الحاكم بأمره وأنه لا معقب لحكمه وأنه يملك زمام الأمر كله ولا أحد يملك معه حق المراجعة أو المحاسبة.
في سَكْرَة هذه الفرعنة المبكرة والنزق الفاجر تناسى بن سلمان الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها قطاعات عريضة من الشعب السعودي، وزاد الهوة الواسعة أصلاً بين أبراج قصره العالية وبين بئر معطلة واحتقان شديد وغضب مكتوم يعيش فيه السعوديون أيامهم ولياليهم.
صَب الأمير الحالم مزيداً من زيوت السَفَه على نيران الحاجة والعوز المتزايده حينما قدم نصف ترليون دولار للرئيس الأمريكي ترامب في زيارته الأولى للمملكة، تحت سمع وبصر الجائعين والمعوزين وأرباب البطاله من أبناه شعب المملكة المكلوم.
لم يُبِقِ إبن سلمان باباً من أبواب الفشل لم يطرقه بعد سقطتيه العسكرية والإقتصادية ، وأبى إلا أن يحرق جميع أوراقه ويهدم المعبد على ساكنيه.
كانت آخر هذه الأوراق هي التماسك المجتمعي وقيم القبيلة وشيمها من جانب ، والتمسح في الدين والمزايدة به وتلميع الوجه بدعوى أنهم سدنة البيت وحراس العقيدة وحماة الشريعة.
هذه الأوراق هي الأخرى حرقها بن سلمان بحصار قطر الخليجية والتي تتقاطع أنسابها مع أصول أنساب العائلات والقبائل الكبرى في المملكة، ثم كان قاصمة الظهر بالهرولة تجاه إسرائيل وتجريم المقاومة الإسلامية ومحاربة الإسلام السني والتصدي له.
في هذا الواقع شديد التغير والتحول ننتظر بين عشية وضحاها أن يرتدي معها الأمير الشاب تاج المُلْك، لكن بين يدي ذلك تحديات حرجة وأسئلة حادة وجادة ستكون إجاباتها مُحَدِدةً لمستقبل المملكة وربما المنطقة.
من هذه الأسئلة والتحديات:
هل وصول محمد بن سلمان الى كرسي الملك في السعودية سيقدم نفسه كسابقيه خادماً للحرمين الشريفين أم سيتحول خادماً لشيئ آخر؟!..
ماذا عن غضب السعوديين من الضغط الاقتصادي ومزيد من الفقر ينتظرهم مع مغامرات بن سلمان القادمة أميراً كان أو ملكاً؟!..
هل سيظل الغضب داخل العائلة الحاكمة في المملكة مكتوماً أم سنسمع فحيحاً، وربما ضجيجاً في المستقبل القريب؟!..
ماذا يحمل المستقبل لنظام الحكم السعودي بعد كل هذه التجاذبات؟!.. وهل سيظل حُكم القبيلة سائداً؟!..
أعتقد أننا لن ننتظر كثيراً لنرى ..