كل الذين يفرضون الحصار على قطر لديهم بدلاً من الدليل عشرة على أن الدوحة بريئة من كل اتهاماتهم، رديئة الصنع ركيكة الصياغة. ولديهم أيضاً شواهد وقرائن كثيرة على أنها كانت مجاملة لهم، ربما أكثر مما يجب، في عديد من مشاهد العكّ السياسي والتخريب الحضاري الذي مارسه المحاصرون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
هل هو الغيظ، أو الكيد فقط، يدفع رباعي الحصار إلى استهداف قطر على هذا النحو الهمجي؟ هل هو الغضب من أنها وقفت أقرب إلى أحلام الشارع العربي بالتغيير؟ ربما كان ذلك ضمن أسباب الحصار، لكن السبب الرئيسي، في ظني، أن كل الأطراف التي تحاصر قطر إنما تفعل ذلك حلاً سهلاً للهروب من أزماتها الذاتية التي تكاد تخنقها، فقرّرت أن تهرب بأزماتها إلى الدوحة، في محاولةٍ للتخلص من حمولتها الزائدة من الفشل والارتباك في ملفاتها الداخلية والإقليمية، وأيضاً تمرير كل ما هو غير طبيعي وغير معقول، محلياً، تحت سحابةٍ من غبار معركة خارجية، رأوها سهلةً ومنخفضة التكاليف.
كان الاستبداد العربي، في وقتٍ سابق، يختبئ في أحراش مواجهة العدو الخارجي، إسرائيل في تلك الأوقات. كانت علاجاً سريعاً ومضموناً للبلادة الاقتصادية، وتوحش الممارسات القمعية، وخنق الديمقراطية والحرية، تطبيقاً لذلك المبدأ غير الأخلاقي، وغير الإنساني، “عندما يكون الوطن بمواجهة تهديد خارجي لا تتكلم عن حقوق أو حريات للأفراد”، وهو مبدأ فاشي مكتمل الخصائص والسمات، اكتسب، في نسخته العربية، أبعاداً أكثر وحشيةً، كونه تحول من وسيلةٍ لتبرير الضمور السياسي في بلاده الأصلية إلى غايةٍ وجودية مع النظم العربية.
الآن، عرب الحصار، عن بكرة أبيهم، على حجر إسرائيل، تدلّلهم وتربيهم وتنميهم، سلطوياً، وتُجلسهم على العروش، وتسدل عليهم ستائر المودة والإشادة، ولا تبخل بالدعم والتعاطف والتشجيع.
هل هي المصادفة التي جعلتهم يختارون اسم” اعتدال” لمشروعهم الضخم لحرق كل ما يتعلق بالحريات المجتمعية والشخصية في الأقطار العربية؟ أول من استخدم مفهوم”عرب الاعتدال”، في نهايات التسعينيات من القرن الماضي، كانت الميديا الإسرائيلية والأميركية، تمييزاً لهم عن صنفٍ آخر من العرب، كان يمانع في الانقياد إلى حظائر “أوسلو”، وما تلاها، والتنعّم بالإقامة في كانتونات التطبيع الكامل، الأمر الذي منح تعبير”المعتدلين العرب” مدلولاً قبيحاً ومثيراً للاشمئزاز لدى الجمهور العربي. ولمّا لم تعد إسرائيل العدو، ولم يعد احتلال فلسطين القضية المحورية الأولى لدي أهل السلطة في الممالك والولايات العربية.. ولمّا كان هؤلاء متعثّرين في أوحالٍ داخلية، اقتصادية واجتماعية، كان لابد من استدعاء قطر، تنهض بدور العدو والخطر الخارجي الذي يضع مصير الأمة الخالدة في مهبّ الريح، ويعرّض أمنها القومي للخطر.
في الحالة المصرية، تظهر تجربة أربع سنوات على قرصنة عبد الفتاح السيسي على الحكم، أنه فشل في كل شيء، فشل حتى في استبداده وديكتاتوريته، فقدّم نموذجا هزيلا منخفض القيمة والحجم للمستبد الديكتاتور، كما ظهر في التجارب التاريخية المماثلة، إذ يجسّد استبداداً تعتبره “إسرائيل” ابنا لها من الرضاعة، وتسخّر كل إمكاناتها الدبلوماسية لتسويقه ودعمه في الخارج، ولا تُخفي سعادتها باعتلائه الحكم، كما أنه شديد الوفاء لهذه الرعاية.
في الحالة السعودية والإماراتية، ينهض اصطناع “العدو القطري” حلاً مريحاً للهروب بمشكلات ترتيب أوضاع السلطة هناك، وما تثيره من اضطراباتٍ في المناخ العام.. فضلاً عن الضروع المالية التي جفّت بعد أن حلبها الراعي الأميركي واغترف.. فلنقفز جميعاً إلى الخارج، ولتكن قطر حلاً لكل هذا الهراء، ولنجيّش فرق الكذب والبذاءة، ولنستخرج كل ما في باطن النفس البشرية من خسّةٍ ووضاعةٍ، ونعلنها حرباً على الأطفال والنساء والطير والشجر، وننتظر أوسمةً من جنرالات إسرائيل، تعقبها ترقياتٌ في المناصب العليا.