إذا أرادت أميركا تقبّل فكرة الدخول في حروب غير منتهية فيجب عليها تقبل شيء آخر، وهو أن تكلفة الحرب قد تكون مستمرة أيضًا؛ حيث إنني أفكّر بشأن المليارات التي أُنفقت وملايين الأشخاص من صفوف الأعداء الذين قتلتهم أميركا، ونسبة كبيرة منهم من المدنيين، وعشرات الآلاف في صفوف الجنود الأميركيين؛ بجانب الألم الذي تشعر به نساء ورجال، ولن يُنسى بسهولة، ولا يمكن أن يتخيله أحد.
عندما بدأتُ في كتابة رواية “هوبرز وار”، التي تتحدث عن الحرب العالمية الثانية في المحيط الهادي، فكّرت في ما حدث للأشخاص في الحرب؛ سواء للمقاتلين أو المدنيين، وشعرت حينها بحاجتي إلى كتابة تجربتي الشخصية في العراق عندما كنت أعمل موظفًا بوزارة الخارجية الأميركية وشاهدت أشياء مرعبة مثل انتحار جنديين.
وبدأتْ الفكرة عندما ذكّرني “فيس بوك” بمناسبة في حياتي، عندما شاركتُ صورًا لأطفال العراق، وفي الوقت نفسه رأيتُ في الأخبار مناطق في العراق شبيهة لتلك التي كُنتُ بها؛ ولكن هذه المرة كان بها مقاتلو تنظيم الدولة قبل أن تُسترجع هذه المناطق، وتواصلتُ مع الأشخاص الذين تواجدوا معي في الحرب منذ سنوات، وكانوا جاهزين لإخباري عما سهرت ليالي أفكر فيه.
وتحوّلت أحاديثهم أولًا إلى كوابيس، ثم إلى أساسيات بحث. وجدتُّ نفسي أتحدث إلى مزيد من محاربين قدامى استمرت معاناتهم بطريقة لم يستطيعوا شرحها، ولكنهم اضطروا إلى مواجهتها يوميًا. واعتقدت أنني فهمتهم، على الرغم من أنها المرة الأولى التي حاولوا فيها وصف شعورهم بالكلمات. وشرح كثير منهم كيف أنهم دخلوا أرض المعركة مقتنعين أنهم الطرف الجيد، وبعدها كان يجب عليهم التعايش مع عمق الذنب والخزي الذي تلى ذلك.
وبغضّ النظر عن الحرب التي نتحدث عنها، سواء أكانت الحرب الكورية أم في المحيط الهادي أم من رؤيتي لمذكرات من مقاتلي الجيش؛ فإن القصة تتلخص في الشيء نفسه، وهو القرار الذي يجب اتخاذه في لحظة ويستمر الحياة بأكملها؛ ومن بينهما التوازن غير المريح بين الأخلاق والنفعية في بعض المواقف، مثل اعتقاد جندي أن التعذيب قد ينقذ حياة أشخاص، أو تقبل الخسائر المدنية من أجل تحقيق الأهداف العسكرية، وهكذا كانت الحرب دومًا عالمًا غير مثالي؛ لأن أيّ قرار فيها يجب التعايش مع عواقبه.
وعرّفني جنديُّ البحرية السابق ماثيو موه على جملة “إصابة أخلاقية”، على الرغم من أن الدكتور جونثان شاي كان أول من استخدم هذا المصطلح وصاغه عام 1991 في الوقت الذي عمل فيه بإدارة شؤون المحاربين القدامى.
وبطبيعة الحال، نحن جميعًا كائنات بشرية لديها شعور بالأمور الصحيحة والخاطئة؛ ويمكن لهذا الشعور أن يُعبث به بطرق كارثية. وهناك حدود داخلنا لا يمكن أن نتخطاها دون أن ندفع ثمنًا باهظًا، وعلى الرغم من أن مصطلح “إصابة أخلاقية” جديد، خاصة خارج الدوائر العسكرية؛ فإن فكرة إصابة أخلاقنا تعتبر قديمة. وعندما يُرسل الجنود إلى أرض المعركة فإن شعورهم بالأمور الصحيحة والخاطئة يُختبر؛ وعندما يقومون بأشياء مثل قتل شخص ما أو الصمت عن جريمة حرب وقعت، فإن هذه الأخلاق تعاني من إصابة في جوهرها.
وهناك أمثلة لهذه الظاهرة الشائعة في الثقافة الشعبية، مثل مشاهد كتاب “الأشياء التي يحملونها” للكاتب تيم أوبراين، التي تحدث فيها عن حرب فيتنام، وغيرها من الكتب.
وفي وقت ما، عبّر المجتمع عن شكوكه أو أسوأ تجاه هؤلاء الأشخاص؛ حيث وصفوا من أظهروا أي إشارة إلى المعاناة بعد الحرب بأنهم جبناء، أو اعتبروهم يغشون للخروج من الخدمة. ولكن، مؤخرًا، اُعتُرف بمرض اضطراب الإجهاد الشديد؛ ويمكن تحديده عن طريق اختبارات الرنين المغناطيسي.
وأحيانًا يجتمع اضطراب الإجهاد الشديد مع إصابة الأخلاق. وتحدث الإصابة الأخلاقية عند تقاطع علم النفس مع الروحانية؛ بمعنى أن كل ذلك في رأس الشخص الذي يعاني من هذا الاضطراب. وفي حالة الإصابة الأخلاقية، فإن الشخص يشعر بالذنب أو الخزي، ويعتبر أنه عقوبة بسبب شيء اختاره أو قام به. أما الاضطراب فهو أمر جسدي، وغالبًا يكون ردًا مباشرًا على حدثٍ ما أو شيء رآه الشخص في الحرب. بمعنى آخر، فإن الاضطراب هو رد فعل على شيء رُؤي، أما الإصابة الأخلاقية فتأتي بسبب القيام بشيء ما.
الإصابة الأخلاقية
لا تأتي الإصابة الأخلاقية للجنود فقط؛ ولكنها تأتي للمدنيين أيضًا. ولا يعتبر المدنيون ضحايا فقط أو أهدافًا؛ ولكن أحيانًا في مواقف معقدة يشاركون في الحرب. وقادتني هذه الحقيقة إلى لقاء يابانيين قدامى مروا بهذه التجربة في الحرب العالمية الثانية عندما كانوا أطفالًا، ووصفوا الخيارات المرعبة التي واجهوها في سنهم الصغيرة؛ وفي هذه المرحلة كانت محاولة النجاة تعتمد على القيام بأشياء قاتمة لا تُنسى بمرور الزمن.
وأحيانًا عند حديثي معهم شعرت أن الجروح النفسية العالقة منذ توقيت الحرب لن تنتهي قبل انتهاء المعاناة. وهكذا تحولت الإصابة الأخلاقية إلى دين لا يمكن سداده أبدًا.
ودفع هؤلاء الناجون في نهاية الحرب باليابان ثمن نجاتهم بمعرفتهم ما حدث لمن لم ينجوا؛ حيث إنه في مشهد الحرب، توقفك عن المشاركة في شيء ما لا يعفيك من المسؤولية أيضًا؛ مثل إخفاء أمٍّ طعامًا ومياهًا لأبنائها في الوقت الذي كان يمكن لهذا الطعام أن ينقذ شخصًا ما، أو إطعام ابن وترك الابن الآخر؛ ما تسبب في موته. وفي هذه السن الصغيرة كان من المستحيل معرفة أنك مسؤول عن مقتل أخيك أو أختك؛ ولكن بعد سبعين عامًا، وعند التفكير في الأمر، يصحبك شعور بالذنب.
كيف يمكن علاج مثل هذا الشعور؟
بالطبع هناك حلول، ولكنها تشمل شرب الكحوليات؛ وهو ما لا يعتبر حلًا. ولكن الأشخاص الذين يعانون يعلمون أن مثل هذه المواد تُخلّصك من الألم لحظات لتعود في لحظات أخرى؛ ولذا فإن شرب الخمور والمخدرات لديها طريقة مؤقتة في مسح ساعات من الألم.
وللأسف، من نتائج الإصابة الأخلاقية “الانتحار”؛ حيث أخبرني جنديٌّ أنه لم يسامح جاره الذي أقنعه بالعدول عن الانتحار، بينما قال شخص آخر إن السؤال ليس: لماذا لا ينتحر مثل هذا الشخص؟ ولكن: لماذا لم ينتحر؟
وقالت إدارة شؤون المحاربين القدامى إن هناك 20 جنديًا سابقًا ينتحرون يوميًا، وهو رقم مرعب. وحوالي 65% من هذا العدد أشخاص تعدّوا الخمسين عامًا أو أكبر ولم يتعرضوا إلى حروب القرن الحادي والعشرين. ولا يتتبع أحد سجل انتحار المدنيين الذين نجوا من الحرب؛ ولكن بالتأكيد فإن هناك نسبة عالية.
وبالنسبة إلى الأشخاص الذين يعانون من الإصابة الأخلاقية، هناك تحركات تُجرى من أجلهم؛ فعلى سبيل المثال، اعترفت إدارة شؤون المحاربين القدامى بالإصابة الأخلاقية وآثارها. وفي 2014 أنشأت جامعة سيراكيوز برنامجًا لجمع المحاربين القدامى والأطباء لإيجاد طريقة للتعامل مع شعورهم. وفي الوقت ذاته، يحاول علماء النفس تطوير أدوات تشخيص لهم حتى يستطيعوا القيام بما يطلق البعض عليه “إصلاح الروح”.
وقال ماثيو هوه إنه من الصعب إقناع المحاربين القدامى به؛ لأنهم وفق المنظور الأميركي الحديث يعتبرون أبطالًا.
ويحاول أشخاصٌ يعانون من الإصابة الأخلاقية التعامل معه عن طريق طلب العفو. فعلى سبيل المثال، سافرت الصحفية ليزا لينج إلى أفغانستان لمعرفة ما سبّبه برنامج الطائرات من دون طيار، الذي كانت جزءًا منه وتسبّب في قتل الآلاف؛ ومما فاجأها عند مقابلتها لأهالي الضحايا إخبارها أنهم يسامحونها، وأكدت ليزا أنها لم تطلب السماح؛ لأنها تعلم أن ما فعلته وما شاركت فيه لا يمكن المسامحة عليه.
ويحتاج القتل عن بعدٍ كثيرًا من الأشخاص، وما فعلته ليزا هو المشاركة في قاعدة البيانات وشبكات تكنولوجيا المعلومات؛ وقد درس المحللون المعلومات القادمة من قاعدة البيانات لاختيار من سيتستهدفون.
وأضافت ليزا أنها أمضت كثيرًا من الوقت في أرض المهمة أو في جلسات الإحاطة، وهناك رأت وسمعت أشياء مدمرة وأكاذيب، موضحة أن ربط أفعالها بأحداث محددة يعتبر أمرًا مستحيلًا؛ بسبب المسؤولية المشتركة بين أكثر من فرد.
وهناك طريقة أخرى للأشخاص الذين يعانون عن طريق محاولة إعادة التوازن الداخلي بإجراء تعديلات؛ بمعنى أنه في حالات للإصابة الأخلاقية يُرسم خط فاصل بين ما كان عليه الشخص وما أصبح عليه الآن.
فعلى سبيل المثال، كان قرار تشيلسي ماننج بتسريب فيديو لمقتل المدنيين على أيدي أعضاء بالجيش الأميركي هو محاولتها إجراء تعديل داخلي؛ بسبب شعورها بالذنب بسبب صمتها بعد مشاهدتها جرائم الحرب. ومن بين الأشياء التي رأتها -على سبيل المثال- الغارة الأميركية على منشأة طباعة، التي قيل إنها تابعة لتنظيم الدولة؛ إلا أنها لم تكن كذلك.
ولذا؛ فإن الأشخاص مثلي ومثل تشيلسي وحديثنا عما رأيناه كان نابعًا عن ضميرنا، الذي أدرك أننا كنا جزءًا من شيء خاطئ. وقال جوناث شاي إن انهيار الأخلاق لا يجب أن يكون متعلقًا فقط بشخص فردي؛ حيث إنه يمكن أن يمتد إلى رؤية خيانة شخص مسؤول للأشياء الصحيحة.
وهذا الجزء من إصابة الأخلاق يمكن أن يشرح موقف إدوارد سنودن، الذي تحدث عن أسباب تسريباته وآثار أسئلة عن الأمور الصحيحة والخاطئة عندما يكون الأمر متعلقًا بمسؤولين كبار في الحكومة الأميركية. ولذا؛ يجب توجيه تساؤل إلى إدوارد مثل: كمّ الخزي والذنب الذي شعر به لكونه جزءًا في برنامج الدولة للمراقبة، ولأي درجة كان قراره بتسريب ما حدث مرتبطًا بشعوره بالذنب ورغبة في التخلص من هذا الشعور.
وفي النهاية، فإن هدف كل الذين يعانون من إصابة الأخلاق هو نفسه: إعادة الأجزاء الجيدة وتقبّل ما قام به الشخص أو ما شارك فيه.
سألني طبيب بعد عودتي من العراق في 2010: هل تقصد أزمة طائرة فيتنام؟ في إشارة إلى رد فعل المحاربين القدامى على صوت الطائرة المروحية التي أعادتهم إلى الأدغال؛ وكان ردي أن الأمر أعمق من ذلك، وأخبرته قليلًا عن دوري المخزي في إدارة مشاريع إعادة البناء في العراق وكيف تسببت في النهاية في معاقرتي للفودكا للتخلص من الشعور بالذنب.
وكانت هذه تجربتي الشخصية مع الإصابة الروحية؛ حيث فشلت في القيام بأي شيء جيّد كنت أرغب في القيام به، وشعرت بالخذلان من القادة الذين آمنت بهم من قبل.
ولذا؛ ما هو ثمن انتحار جندي بعد عودته من الحرب بسنوات، أو شخص آخر متواجد في مكان ما ولكن عقله في مكان آخر؟ ويعتبر ثمن الحرب أصعب من أن يُحسب؛ ففي الوقت الذي تستمر فيه الحروب تستمر التكلفة -المادية أو النفسية أو بعدد القتلى- في التراكم؛ ولذا: من يدفع الثمن؟